الوارث والموروث .. وعيٌ وطقوس
بقلم : د. محمد إقبال حرب
ينتابني شعور غريب لم يسبق أن شعرت به، لم أقرأ عنه في أي كتاب طبي أو أدبي ولم تبُح بأسراره أبواق النميمة أو تحفظها مخطوطات الهرطقة. شيء ما يتسلل إلى كياني بدهاء الثعلب وذكاء الغراب. أشعر به يتغلغل في كل عضو من داخل وخارج جسدي. إنه غازٍ من نوع جديد، لم يؤذني قط ولم يترك أثرًا. لكنني أشعر به، بتنقلاته عبر خلاياي عبر خيوط نارية تشبه خطوط قطار الرصاصة الياباني. لاحظت أنه لا يتحرك بوتيرة واحدة، إذ تتغير سرعة تغلغله اعتمادًا على نوعية الخلايا وكثافتها. مرَّ وقت طويل مذ أدركت وجوده، إلى أن أطلقت صفّارات الانذار نفيرها في كياني. اقتحام شامل لجسدي من الداخل والخارج عبر ومضات كهربائية مسوّمة وكأن للعدو خلايا نائمة مزروعة في كل خلية حيّة من كياني. لا ألم البتة، بل أخطر من ذلك هو احتلالك كاملًا دون طلقة واحدة. عدو يعرفني أكثر مني، يعرف خارطة الجسد بدقة متناهية، يعدّها عدّا وكأنها مستعمرات بناها عبر سنوات. لم تستمر العملية طويلًا،توقفت الحركات العدائية والهجمات المناطقية لفترة وجيزة توحي بدعوتي لإقامة محادثات تفضي إلى استسلامي. قررت أن أقاوم حتى الشهادة في سبيل كرامتي. لم يتركني الغازي أنعم بلحظات تفكير لوضع استراتيجية المفاوضات بل أعلن سيطرته من خلال العبث بأجهزتي الارادية وغير الإرادية في عملية قذرة تشبه عمليات المخابرات المتمرسة. وكأن ارتدادات الانفجار المعنوي قد شلّت حركتي فدخلت في نوبة جمود أو بيات قسري لا أدري مساحتها الزمانية.
وجاء فصل الحياة مرّة أخرى فأطلق سيد الغزاة إشارة الاشغال فارتعشت، تنفّست بشهقة عظمى تعادل شهقتي الأولى التي تلت صفعة الاستقبال على مؤخرتي. الخروج من بيات زمني لا تعرف مداه شيء مُرعب، مُذهل، يجمع صفات المخلوقات والآلهة معًا. جوعٌ وعطش وشوق للهواء والنور حوافز عظيمة للحياة. حوافز شدّت أزري لأحرك مفاصلي المتيبسة وعضلاتي الواهنة. لوهلة وجيزة أخذني طوفان النشوة حيث عدت من فناء. ما أن تحركت قليلًا حتى بدا محيطي غريبًا، غريب الهواء، مختلف الألوان، تضاريس المكان غير التي أعرف. أهو كوكب آخر؟ تردد السؤال في حناياي حتى ظننتني حجر أصم عند قارعة الزمن. شعرت بمحيطي حيّزًا ضئيلًا في ذاكرة عاشت في ألف ألف بقعة من هذا الكوكب. اجتاحني دوار شدّني إلى عالم الجنون فاختلط عليَّ الأمر لفترة طويلة ما لبثت أن تجاوزتها عندما تأكدت من أنني أعرف اين هذه الأمكنة وتلك، أليس المكان والروح وجهان لعملة واحدة؟ ذاكرة عميقة تجتاحني كأنما توارثها كياني. لا أعلم كيف ولم؟ لكنني أدركت بعد صراع مرير مع مرور الصور العشوائي أمام لوحة يقظتي، وصدى الأصوات المشبَّعة بمشاعر بدائية انفعالية لا أعرفها حتى غمر جسدي صوتٌ سمعته في كل خلية من خلاياي: أنت الوريث.
وريث من؟
وريث حيواتك.
ما أنا بإله، ما أنا بخالد. فليذهب الإرث لغيري من أصحاب الحق.
تبًا لك. إنها ذكرياتك أنت، حيواتك أنت. بُعثت من بيات في كينونتك أنت.
من بعثها؟ أتكلم الرحمن ونُفخ في الصور؟
إنها لحظة الانتقال إلى كائن أسمى. وداعًا
لم أفهم في لجّة الارباك ما هو المطلوب، ما هي الخطوة التالية؟
هل سأطير؟ هل ستتفتق حياتي عن كائن عظيم يتمتع بقوى الأساطير؟ هل وهل وهل؟
اجتاحني ارباك المعرفة التي فاضت كطوفان جارف. تزاحُم الأصوات والصور التي أصبحت جزء من ذاكرتي وضعتني في شكّ من إدراكي، بل هدّنيالإعياء وخرجت من دائرة الوعي إلى عالم الضياع. رتَّب دماغي سجلّات ذاكرتي العميقة المشفَّرة في جيناتي وحّولها إلى برامج تمنحني قدرة استيعاب مشاعر متجذّرة في التاريخ طواها تراكم السنوات تحت طبقات من صخور النسيان التي تمنع ذكريات بدايتي الحيوانية لمئات الآلاف من السنوات من أن تطفو على بحيرة ادراكي. إنها استراتيجية البقاء التي أنقذت الجنس البشري من فناء الصدمات. لكن زلزالًا أحدثته تلك الأشياء التي اخترقتني فتفجّرت صخور النسيان وأُطلق لشريط الذاكرة الوراثية العنان، فغدت كبُرعم نبَت على دوحة الحياة. أخذت تكبر بتلاتها، تتفتح بسرعة جنونية كفيلم سينمائي تم إشغاله على سرعة عالية، لم يُسمح لي بالتوقف عند أي مقطع.
إنها ذاكرتي الآن بمزيج فوّاح من أريج العصور وشذا العمر المتراكم بطيب الأيام وبؤسها. ها قد انطلقت ذاكرتي العميقة لتحتويني وتحيلني إلى إنسان يملك ذاكرة حيوات أخذها النسيان أسيرة في سجن الماضي. ذاكرة تعود إلى يوم كان البشر بضع خلايا متلاصقة عند شاطئ لم يعد موجودًا.
لقد انصهرنا، أنا وذاكرة وجودي في كياني واحد. وانطلقت في رحلة وجودية أسعى من خلالها تحديد هويتي، انتمائي، بل تحديد ماهيتي.
أخذت وقتًا كثيرًا في محاولات عدّة لمعرفة ما إذا كان ذاك الغازي قد زرع في كياني هذه المعلومات أم أنّه فكّك شيفرة جيناتي فانطلقت أسرارهاحرّة من سجن النسيان القسري.
أأنا البشري الوحيد الذي يشعر وكأنه عاش على كوكب الأرض منذ آلاف السنين؟
أم إنه مسّ من الجنون في موجة خيال عاصف؟
أخاف البوح بأسرار ذاكرتي المستجدّة التي تفتّـقت من معدة الوجود الذي يجتر الماضي بلسان الحاضر. ذاكرة جعلتني أشعر بها وكأنها أصيلة بي.كيف لا وأنا استشعر أحاسيسها ومشاعرها بكل ما أوتيت مجسّات استشعار. اشعر بأنني عشت آلاف الحيوات ومتّ مثلها، أشعر بافتراسي، وقتلي، بأزواجي وأولادي. كم من أب وأم أطلقوا عليّ أسماء وألقاب، أرى وجوههم صورًا تنبش أسراري رضيعًا وطفلًا. أخذتني الدهشة من سحر الأماكن وعظيم المخلوقات التي اندثرت وتحوّلت عبر السنوات فلم تعد كما عرفتها. أرتجف من ذكريات العصر الجليدي وأشعر بضيق النفس مع ذاكرة الطوفان. أصابني الخوف واجتاحني الرعب حتى ظننت أنني أصبت بلوثة، أو تلبسني جنيّ من وادي عبقر. تلوت من كتب السماء ما تيّسر وأشعلت البخور في حضرة الوعي حتى تتفكّك أحجية الطلاسم التي تفيض عن قدرة استيعابي. لا جدوى من الطوفان، لا جدوى من البوح الذي سيفضي بي إلى لقب مجنون. قرّرت الذهاب إلى ذاك المكان الأول الذي باحت به ذاكرتي لأعانق بقايا جسدي القديم واتخذه ملاذا. وجدت نفسي عند جبل بركاني أقرع رغم اصرار ذاكرتي على وجود غابة كثيفة وحيوانات متوحشة ألهبت مشاعري خوفًا بعدما فقدت زوجتي بين أنياب حيوان كبير لم أستطع تحديد اسمه، في ذاك الوقت كان صراع البقاء أقوى من تعيين أسماء للمفترسين.
مرّت سنوات استجمعت فيها كينونتي، سافرت عبر مئات الأجساد التي ورثت بصمتها، قصّتها، مشاعرها في ذاكرتي العميقة عبر العصور. أستطيع أن أجزم بأن الخوف كان سيد الموقف عبر العصور. في البداية وعبر آلاف السنين لم يصلنا وباء الخوف، لم يكن لدينا وقت لنخاف. دائمًا نركض ونلهث، باحثين عن قوت لحظتنا، هاربين من مفترس. لا يمكنك أن تدرك شعوري في تلك الحقبة التي تجمع بين كوني مفترسًا يتسلح بحجر أو عصا وكوني طريدة تخشى أنيابًا حادة لا تكف عن ملاحقتي. لا يمكنك أن تعرف مأساة اكتشاف حيّز آمن للنوم كلما بدأ الغروب يشيح بنور الشمس عن بوّابات الأمن والأمان.
في ذاكرتي العميقة أراني أركض بين الأشجار. التفت خلفي، أنيابه تقترب، أشتم رائحة الموت التي فاحت من جسدي عندما غرز أنيابه في رقبتي. الصرخة أضعف من أن تتردد في طبقات الصدى. كم كان سعيدًا ذاك المفترس بوجبته التي نام على أثرها ساعات طوال رغم قلة الدهون في جسدي البض، حيث كنت أنثى. المشهد تكرّر مرّات ومرّات. التخفّي بين الأشجار واللّوذ بالكهوف المنحوتة كانت الوسيلة الأكثر أمانا إلى أن اكتشف كائن بدائي، كان يجاورني كيفية خلق النار التي أصبحت إلهًا للبشر قرون طوال. إله ينفث الخوف في كل اتجاه، يترك بصمته السوداء ممهورة بهباب فعلته. ما أكثر الآلهة الذين عبدتهم، ما أكثر القرابين التي قُدّمت وسُفكت وهتكت باسم الآلهة التي صنعناها خوفًا منها. وكم نكثنا بعهود قدمناها لآلهة خلقناها بعدما أدركنا كيفية السيطرة على قواها.
ما أن اكتشفنا النار وشعرنا بنوع من الراحة حتى تسلّل الخوف إلى كياناتنا كفيروس عاشق، يدخلك ويستقر. ما أن غزا الخوف أرواحنا وأجسادنا حتى نافس النار على قدسيتها وتبوأ سدّة الألوهية.
إنه الإله الأوحد عبر العصور، إله اتّخذ أشكالًا كثيرة تتطور أسرع من تطور البشر.
الصراع بين أنا الذي أعرف والـ “أنا” القادم من جينات الذكرة العميقة على أشدّه. صدى البعيد يتصارع للوصول إلى سطح البحيرة التي يتملكها الحاضر منذ ثلاثة وسبعون عامًا. ترددات الأصداء من آلاف الحيوات سابحةإلى أعلى بعد كبت واحتجاز في سجن النسيان.
جذع دوحتي بدأ يكبر ويكبر بتسارع الحلقات على أخذ موقعها، اتسّعت رقعة حضوري على مساحة شاسعة من الوجود. ناء بي الحمل فاتخذت من السكون موئلًا حتى هدأت عاصفة الهجوم المباغت الذي حرّر سجن الزمن وأطلق سراح روّاده. استعرضت كيانات المدّعين فوجدت في كل منهم حنينًا لا يعرفه إلا أنا. وجوه شاحبة، فتية وهرمة، لذكران وإناث، همجية ومتحضرة، بسيطة ومعقدّة عبر أمكنة غابرة مندثرة، ومستحدثة فتية.
بعد الخوض في ذاكرتي العميقة قررت العودة إلى البداية. تصفّحت حقبات عمري فوجدتني حيوانًا قمّامًا، وجدتني امرأة تُغتصَب ورجل يَغتصِب، عبد وسيد بل حيوان أليف وآخر همجي متوحش. مزيج الأصوات رحلة فناء، ومضات الصور تنحت من الذاكرة لبَّ الأوقات. عامل واحد يلازمني في كل ثوب بشري ارتديته ومع كل الأقنعة التي كست بشرتي بألوان متعددة. تلك الأقنعة التي اتخذ البشر نادرها مقدسًا وأكثرها مدنّسًا. إنه الخوف الذي لميبارحني عبر العصور منذ أن أعلن حضوره. ذاك الخفي الذي يكتسح كل بشري منذ فجر التاريخ. يكتسحه، يحتلّه ويقيم معه علاقة غير شرعية يخجل الشريك بإعلانها وكأنما هي جريمة لا تغتفر. دموع الخوف الأولى حفرت أخاديد على وجنتي، لفحتهما بلون الرعب الذي كنت أستره بضحكة غبية أو بسمة مصطنعة. أبكي في حضن الليل، أرتعش، بل أرتعد وحيدًا من وخزات مخلوق خفي يحتلني. كان الخوف مشاعًا في البداية، تعرفت عليه مع ظلّي في أعمق ذاكرة أدركتها. عندما رأيت ظلي يتبعني أخذتني رجفة غريبة من الذي يجاريني، فأدرك الخوف سبيل اقتحامي واحتل مشاعري. تكاثر الخوف بكائناته في كوكبي الذي احتلَّه كطفيلي لا يقتات إلا على انزيمات الرعب التي تفرزها مشاعري ولا يسكن قبل أن يرتشف كأسًا من الأدرينالين.
في رحلة البقاء والتنقل القسري الدائم شاركت أبناء جنسي مشاعر الخوف قبل أن تصبح عارًا يوصم به المرء. الفرار من ثور وحشي أو تريناصور جائعيبعث في الخوف حياتًا، الفرار من عاصفة هوجاء ترفعنا إلى أعالي الأشجار أو ترمينا فوق الصخور تزيد من غبطة الخوف الذي يجبرنا على البكاء والنحيب في مأتم جماعي لا ندفن فيه إلا كبرياؤنا. اعتراني الخوف طفلًا مرات عدّة وأنا أجد نفسي وحيدًا عند جثة والدتي أو بقايا أوصال والدي. آه مني وأنا أرى نفسي محاطًا بالنار، يشلّني الخوف عن التفكير، أصرخ أولول دون مجيب، يذوب جسدي، تبتلعه النار بينما الباقون بمن فيهم زوجي وأولادي يركضون هربًا من النار. ما أصعب أن اشتم رائحة شوائي وأشهد ذوبانها في فناء لا ينتهي بينما يتراقص الخوف على بقاياي.
مع الزمن ولآلاف السنوات عبدنا ما نخافه لنسكت ربَّه الذي بداخلنا. لكننا انتصرنا عليه في عدد لا يحصى من الجولات، قتلنا رمزه الحيواني، سيطرنا على بعض رموزه من أفعال الطبيعة. فرحنا لبعض الوقت، لكن رموز الخوف لا تحصى. رموز مادية يتنقل الخوف فيما بينها كلما فككنا رموز إحداها. ورموز أخرى لم نعلم بوجودها، تلك الرموز النفسية والمعنوية المزروعة في كينونتنا. استغلّ الخوف تلك الرموز ببراعة فأرعبنا ودكّ بنيان وجود كثير منّا. عزونا الأمر إلى إله يكرهنا يوظّف الكهانة والسحر لينتقم منّا لسبب لا نعرفه ولا نعرف ما يسعده من قرابين.
لا أدري لماذا أصبح الخوف عارًا مع الوقت بعدما كان فخرًا نتشارك به في مجموعات أصابتها نفس المصيبة. كنا نتشارك الخوف والألم والمعاناة بالضحك والبكاء، نلوذ ببعضنا البعض متكاتفين ضد الخوف الذي اعتبرناه في تلك الأيام نوع من الألم. مع تطورنا البشري البطيء جدًّا أدركنا أن الخوف كائن يتملكنا كالسحر، يعتصر داخلنا الذي دعوناه لاحقًا نفسًا، بقوة الفناء دون أن يترك أثرًا ماديًا. وصمنا الخائف بالجبان والمجنون مع أن الخوف قد تملّك ذوات كل منّا. ولأن النجاة من عار الجبن تلخّصت في كتمانه، لذلك كتمت خوفي على مضض وتآخيت مع الخوف ضمن حدودفردانيتي حيث اتخذني عبدًا. كان وما زال يختبئ حتى تسكن الحركة، يتوارى حتى يختفي البشر، كل البشر. يشدّني إلى فراغ ويبدأ جَلدي بسياط الرعب بقسوة حتى تـخرُج أشباحه من مسام جسدي ومآقي عيني.
بالأمس، استفرد بي اللعين معلنًا محاكمتي.
_ ما تهمتي؟ ما تهمتي؟
= أراك تزدريني وتحط من قدري أيها البشري وقد رافقتك عبر حيواتك، أحسنت لك وقدّمت الكثير. بل أراك تعمل جاهدًا للتخلص مني بعدما رافقتك لملايين السنين.
أردت أن أضحك، أقهقه على مقولته لكنني خفت أن يغضب ويستعيد أيامه الخوالي فيجلدني رعبًا حتى الموت بثوب كاهن أو قناع سلطان.
لا أدري أي إله يتقمص الآن؟
قال: ما بالك أيها الجبان، ألا تعرف كيف تجيب؟ بل كيف ستبصق في بئر كرمي الذي رواك مذ كنت حيوانًا قمّامًا تختبئ بين الأشجار لتنعم ببقايا فريسة تركها ذئب أو أسد؟
لم أتحمل مقولته، ارتفع عندي منسوب الأدرينالين وأعطاني جرعة جرأة لم أعهدها إلا عندما فررت من أفعى الصلّ في غابة تصحّرت عبر السنين. قلت: رويدك أيها العدو الأزلي، أنت أرقي الدائم، أنت رعبي القاتل، أنت الوحيد الذي يلجم قواي ويهتك بشريتي انزواء وبكاء. هل يحاكم الضحية جلّادها؟
ضحك، وضحك حتى بانت نواجذ القدر. لم يتوقف عن ذلك حتى صرخت به: اذهب إلى الفناء، خلف جدران البكاء، حاول أن تذرف الدمع لتغسل آثامك من تدنيس أجساد البشر المقدّسة.
تابعت: من أنت لتعلن محاكمتي؟ من أنت؟
أجاب: أنا المحفِّز لارادتك، أنا محرضك على الاكتشاف، أنا من يشعل جذوة أفكارك. فكلما حاولت التخلص مني والتملص من رموزي كنت تكتشف وسيلة جديدة أبدعها فكرك الخائف. حسنًا فعلت باختراعاتك واكتشافاتك. فعلًا أحيي التقدم المذهل في طريقة تفكيرك. لكن تذكر بأنني داخلك أحيا. عليك أن تدرك أن خوفك من النار علّمك خلقها والسيطرة عليها إلى حد كبير. الخوف من الجوع علمك الزراعة وخوفك من الطبيعة والحيوانات أعطاك مفاتيح القرى والمدن. ومع ذلك تكرهني. أتعلم يا هذا، بدوني لم يكن مصيرك أفضل من قوارض الغابة وثعالب الصحراء. قم واعتذر لنتصالح فأنا لا أريد اصدار حكم على رفيق درب الوجود.
رددت: تبًا لك، قبل ظهورك لم نكترث، لم نخف، تعاملنا مع اللحظة وعشناها بسعادة كما القط والقرد والسباع.
قال بهدوء: ها أنت تؤيد طرحي. كنتم حيوانات قبل وجودي المحفّز لوعيكم، ذاك الذي صنعكم على ما أنتم عليه الآن.
فكّرت مليًّا في مقولته فوجدت فيها الكثير من الحقيقة رغم المغالطات. وحيث أن الخوف بدأ ينغل تحت جلدي إذ بدأت اشعر كثافة وجوده التي تطغى على مشاعري حدّ الانهيار. لذلك أردت التخفيف من حدة المحاكمة فقلت: لكنك ومن عصور أسميناها حضارية تغير اسلوبك؟ أأنت خائف من أن ينهار أسلوبك القديم بعدما اكتشفنا ألاعيبك؟
نظر إليَّ بحدة وقال: أنت منافق أيها البشري، بل أجدك تعوَّدت على الهرطقة. تُـحلّل لنفسك ما تشاء وتـحرمّه على غيرك. إنها قمة التناقض والازدواجية في طرحك وتفكيرك. تبًّا لك.
لم أفهم مقصدك؟ أتظن بأنني أخافك لأنك زبدة الخوف. ها أنا أملك تاريخك الكامل، أراجعها في ذاكرتي، أعرف ألاعيبك وأساليبك. لم يعد لك مكان في كينونتي. لذلك أدعوك للاعتذار عن هذه المحاكمة واطلق سبيلي من ضلال أوهامك.
يبدو أنك واهم إضافة إلى ازدواجيتك. بل أصبحت سريع النسيان. ألم تقل بأنني غيَّرت نهجي؟ ماذا تقصد؟
لا أدري، أجبت. لم أعد أشعر بك كما في السابق ومع ذلك تقتحمني، تستفزني تنهل من جسدي الصحة وتزرع القلق. تسرق البسمة وتحفر تجاعيدالهرم.
الخوف: استمر … استمر
لم أعرف ما أزيده إذ أن مفاجأة الحقيقة بعد مراجعة الحوادث عبر عصوري البائدة لفت نظري اختلاف خوفي، بل نوعية خوف البشر. يختلف الخوف بين عصر وآخر رغم أن مشاعر الخوف واحدة، لم تتغير. سيطرة الإنسان على ما يخيفه تستحق الدراسة. في البداية كان الخطر الوحيد الذي قتلني وقتل معظم أبناء البشر هو الحيوانات الجائعة التي لا تفترس إلا لتملأ معدة خاوية. في تلك اللحظة يثب المفترس بقدرات خارقة، يقتل من الضربة الأولى. كنَّا دائمًا في حلقة النجاة، هاربين، راكضين، متحفزّين تارة من شركائنا الجياع على متن هذا الكوكب وتارة من عوامل الطبيعة التي كانت في طور الاستقرار. فخلال موجات جنون الطبيعة ببردها وبراكينها وأعاصيرها كنانهرب برفقة مفترسينا بأمان إلى حيث لا ندري. بعد أن تهدأ الكارثة، أو بعد أن نجد مستقرًا يبدأ الصراع على لقمة العيش. من يملأ معدته أولًا يضمن البقاء. لم يكن هناك وقت للتفكير بماهية الخوف. لذلك لم يكن له اسمًا.
وكأن اللعين يقرأ أفكاري، بل كأنه جزء منها. أراد أن يتكلم فقاطعته سائلًا: من أنت؟ وباء أم لعنة؟
الخوف: لم تفهم وجودك عبر العصور، ولم أفهم وجودي كذلك. لكنني أعرف بأنني طفيلي أسبب الإدمان المفرط، المتوارَث. ادماني يتغلغل إلى شريطكم الوراثي. أنا العقار الأقدم والأثمن والأعمق. لا يمنكم العيش بدوني. أتعرف لماذا؟
لماذا؟ قلتها بلهفة الجاهل ليدرك المعرفة.
أجاب: لأنكم تسعون خلفي عندما أختفي كما يسعى مدمن الكوكايين خلف تاجر المخدرات باذلًا أغلى ما يملك للانتعاش من نوبة الإدمان. لذلك تخلقونني من جديد ألف مرة في اليوم.
صرخت به: من منّا يسعى إليك؟ أراك مغترًا بنفسك رغم وضاعتك الطفيلية التي ذكرت.
قال: يا لك من مهرج يدّعي الغباء. بل ربما تتخذ الغباء قناعًا حتى لا يسقط كبرياؤك أمام صديقك اللدود. أنتم بنو البشر، تعشقونني، تربون أولادكم على محبتي وعناقي. تدفعونهم على حبي الأزلي بترويعهم وتخويفهم تارة بالعبوس وأخرى بالتهديد والوعيد، ثم تنتقلون لترويعهم بالضرب والاهانات بأنواعها فينزوون غير مدركين ما يفعلون. في تلك اللحظة أقدِّم لهم نفسي، اقتحم وجودهم وأستولي على خلاياهم. يبكون، يصرخون يلوذون بالجماد حاضنين باحثين عن أنيس فلا يجدون غيري يثير مشاعرهم التي تتقد جمر غضب وكراهية يكاد يقتلهم فأنقذهم برجفة خوف وحميم دموع تسكتهم. بعد ذلك استوطنكم، أتسلل إلى أرحام الحوامل أفترس الجنين قبل أن يتنفس هواء كوكب الأرض.
قاطعته قائلًا: أنت تحمِّل الموضوع أكثر من الحقيقة. إنها تربيتنا لأطفالنا ولا ضير في ذلك. لو كان في الأمر خطورة لما تضاعفنا الى مليارات. ها نحن نعيش في رفاهية تامة مقارنة بطفولتي الأولى.
ههه.. قالها باستهزاء اثار غضبي وحنقي على هذا اللعين الذي تابع:
نعم تطورتم، تكاثرتم تحت ظلالي، في ملكوتي، أنا إلهكم الحقيقي.
قلت غاضبًا من كفره: ها قد بدأت الهذيان، قلها. قل بأنك تريد ادعاء الالوهية.
قال بوقار رجال الدين : ما عاذ الله، ما أنا إلا كائن طفيلي، لا أمتلك وجدًا مادّيًا. أنا كائن خيالي، لكنني فعّال. الّهتموني، أعطيتموني عناوين كثيرة وكبيرة. تبنتني أديانكم التي تمجدون وبها تفرحون لأنها أخرجتكم من الكفر وعبادة وعيادة الأصنام. في الحقيقة ما هي إلا كيانات قائمة على وجودي. أنتم
تعبدون آلهتكم خوفًا من عذاب الآخرة، لا حبًا بالإله. تخافون النار والجحيم في بعض الديانات وتخافون مشقّة دورات الحياة الطويلة في ديانات أخرى لتنعموا بالخلود. بل تخافون اللعنة التي لا تعرفون ماهيتها بغباء مدوي.
نظر عميقًا في عيني برهبة الرعشة وقال:
أتذكر في حيواتك السابقة الاديان التي قامت على المحبة فقط؟ لم تعش إلا عقودًا، بل لا يذكرها باحث أو مؤرخ لأنها بائدة، لم يستسغها العقل البشري الذي لا تحركه إلا سياط الخوف من نار يمعن في تذكية نارها رجال الدين.لذلك ترى أن عبادة النار والاوثان العامرة بالترهيب وسفك الدماء هي التي عاشت الاف السنين. والآن يبقى الخوف هو المحرك الرئيس لإيمانكم.
قاطعته قائلًا: أراك تتعدى حدودك إلى مقدّسات البشر. ما أنت إلا خوف وضيع سنجد عقارًا لنمحوك من الوجود.
قال: أنا لا أكذب، كنت أنا سيد المعابد والكتب السماوية عبر العصور. هل يمكنك اخباري عن دين لم يستخدمني ليصل قلوبكم البائسة. أنا سيد الحاضر والماضي شئت أم أبيت.
أسكت يا هذا. صرخت به. قال: ها أنتم تعبدونني من خلال أنفسكم في هذا العصر. عصر السماء مات منذ زمن بعيد. ها أنتم تحمِلون أديانكم وصفاتكم الروحانية على طبق من كذب وادعاء كقناع زهد يخفي موبقاتكم. لقد انتقلتم إلى اختراع آلهة ترونهم، تفاوضونهم على مكاسب مادية التي لا تحتمل وعودًا كالجنة والنار أو الحفظ من الفناء وتضمنون مكاسبكم بصورة فورية دون ذرّ رمادكم في نهر الغانج ليحملكم إلى الاندماج بالروح العظمى ودون انتظار يوم البعث البعيد.
انتفضت حميتي للدفاع عن معتقدي الذي اختلط عليه الأمر بعد تفتح زهرة الذكريات وما فيها أساطير وأديان وآلهة وقلت: لا تتعدى حرمة مقدّساتي أيها الطفيلي!
ضحك، رقص، وأخذ يغني بما لا أفهم لفترة طويلة. قال: أقسم برب هذا الوجود إنك ضال مخادع كما كل البشر. تكذبون على أنفسكم حتى في سرّكم. أتعلم لماذا؟ لأنني أقيم في خلاياكم، في سرائركم، أعرف خواص سريرتكم. أسمعكم تستدعونني في كل يوم ألف مرة، مع كل صلاة، مع كل معاملة بينكم وبين الإله الذي تدّعون عبادته لأحميكم بالبكاء والدموع من هول كذبكم. الغريب أنكم تسمّون هذا النفاق تضرعًا. أنا القلعة التي تتسترون بها، بي تخافون الله ومعي تشكرونه على ما لا تعرفون.
قاطعته قائلًا: لو كان صحيحًا ما تقول فإنك تقر بأننا نعبد الله خوفًا.
قال: ألم أقل لك لا تستغبي. أنتم تتخذونني درعًا واقيًا. تقولون نعبد الله خوفًا من عذابه. ثم في سريرتكم تسرقون وتلعنون حياتكم التي تعرفون كيف بدأت وإلى اين منتهاها. بدأت بالغموض وستنتهي كذلك. لذلك تستنجدون بي، تفعلون أي شيء تحت غطائي. دائمًا أنا معكم. في عصركم البدائي تجاوزتم الخوف من الحيوانات وكوارث الطبيعة إلى حد كبير. شدكم إدماني في عصركم هذا، فاخترتم تماثيل وأصنام من صلبكم، نصبتموهم آلهة في معابد حديثة اسمها قصر رئاسي، مجلس نيابي، قصر عدل وبنك مركزي. لقدعبدتم أصنام الزعمات والرئاسات تحت سياط الخوف التي نشرتها أصنامكم بالسجون ووسائل تعذيبها، في كذبة الديمقراطية وهول مصائبها، كم منأصحاب المصالح الذين اتخذوا المال جزرة يركض خلفها حماركم دون طائل. لذلك أراكم فعلًا مؤمنين بآلهة توارثت عصور الوثنية بدهاء حافظ على الأديان السماوية.
صمت كل شيء، ارتفعت وتيرة الخوف، تسلل الي هذا الكائن من انحاء جسدي وقال: أنت العينة الاولى من الكائن المحقون بالخوف الأزلي المتراكم. قريبًا ستتوجني إلهًا دون وسيط لأخفف عنكم العذاب المتراكم.
أنت لعين أيها الخوف. أتدّعي الألوهية.
يا هذا، اللعين الذي مكّنني منكم هو الوعي. فبعدما كنتم مخلوقات تدب على الأرض من أجل البقاء أصبتم بداء الوعي. ذاك الداء نتيجة الفراغ الذي حصلتم عليه بعد اختراع النار، واكتشاف سُبل الزراعة أشعل في أدمغتكم برامج مكبوتة، أذهلتكم حتى الجنون فأدركتم الوعي الذي أوصلكم إلى هنا. الوعي البشري أماط اللثام عن صناديق الحقد والكراهية، عن بذور القتل والذبح والتشرد، عن مشاعر الانتقام والاستحواذ والسيطرة، عن بريق السلطة والجبروت. لقد أيقظ وعيكم جوارح الفناء الذاتي في كياناتكم فاستغليت هذهالحقيقة لصالحي. دعمتكم بالخوف فأثرت فيكم الابداع بنواحيه. خفتم من الجوع، من البرد، من المخلوقات التي كانت صديقتكم. خفتم من كل شيء مما استفز ملكاتكم للبحث عن حلول تسكتني بعد جرعات الأدرينالين التي تبذلونها لإرضائي. لذلك سأعقد معكم صفقة جديدة أزلي بعدما أصبحتم على درجة عالية من الوعي والمعرفة.
ماذا تريد؟
أن تهدموا كل صروح الكذب وتعلنونني إلهًا أزليًا فأنزوي في باقي المخلوقات ليتمكن منها الخوف فتبتعد عنكم. بل سأخيف الطبيعة وأجبرها على السكون في حضرة البشر.
ما أغباك يا هذا: ألم تخبرني عن آلهتنا الجدد، أنريد إلهًا آخر. ربما نستفيد من الوهيتك في عصر آخر. ألا يكفينا آلهة تتربع على عروشها في ممالك وجمهوريات، في برلمانات ووزارات، في مراكز قوى ومافيات إضافة إلى إله آخر ندّخره ليوم القيامة.
تابعت سائلًا ذاك الطفيلي: ألديك ما يسمن من جوع ويروي من عطش؟ ألديك ما تعطيه لنا أو القدرة على سلبنا ما غنمنا.
قال بثقة: لدي شيء واحد، أعدك بأن أسلبكم الأمن والأمان في عمق وجودكم حتى يقتلكم القلق وتستولي عليكم رجفات الخوف، حتى تعودوا متوحشين كما كنتم في غابة الوجود مع حيوانات لم يصبها داء الوعي.
قلت بثقة: أنت أضعف من أن تزعزع ايماني.
اختفى بسرعة مرسلًا جيوش رعب هزمت كياني بسرعة الخلق. تمسكت بالبكاء خائفًا من شيء ما اقتحمني وبدأ ينهش ذكرياتي، يقضم حيواتي متلذذًا بعودتي إلى حيث لا وعي ولا ادراك.
———————–
* روائي وأديب لبناني