النموذج الصيني ..وقابلية العرب للإستعمار
بقلم : توفيق شومان*
على قاعدة ” مصائب قوم عند قوم فوائد ” ، يجري الترويج للصين نموذجا للبشرية ونموذجا للحكم ، ونموذجا للإدارة ، ونموذجا مأخوذا من الصف المرصوص لأكثر من مليار ونصف مليار إنسان .
في مصيبة كورونا ، لم يخرج من الصين ، إلا ما يريد الحزب الحاكم إخراجه ، وما يُعلن عنه ، وما يحسن صورته .
لا أحد في الصين ، له الحق في المساءلة ، أو الاعتراض ، أو في مخالفة ما يقوله الحزب الحاكم حتى في مجال الصحة والطب ، فما يقوله الحاكمون آيات بينات وما يصدر عن الحزب الشيوعي بيانات محكمات.
منذ ظهر وباء كورونا في الصين في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٩، بقي الحزب الحاكم يقول إن الصينيين المصابين في وباء كورونا لم يتجاوز عددهم مائة ألف شخص !!! ، والموتى بضعة آلاف.
كأن أهل الصين محصنون بالحصن الحصين .
من يصدق الصين ؟ ولماذا علينا أن نصدق الصين ؟.
في أقل من شهر خلال مطلع العام ٢٠٢٠ ، ضرب وباء كورونا ايطاليا ، وأردى عشرات الآلاف من مواطنيها ، وأنهك مئات الآلاف غيرهم ، والحال إياها في بريطانيا وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا.
أين اللغز ؟ أين الطلسم ؟ اين الأحجية وأين السر ؟. ومرة اخرى : هل في الصين حصن حصين كما كان في تاريخها الحصن العظيم أو السور العظيم ؟.
بلاد شاسعة مثل بلاد الصين يقطنها ربع سكان العالم تقريبا ، وهي مركز انطلاق وباء كورونا ، ظل الوباء يجتاحها لأشهر عدة ، وظل الحزب الحاكم يقول إن صرعى كورنا في الصين أقل من خمسة آلاف وأن المصابين لا يتعدون تسعين ألفا ، وبلاد أخرى يعصف بها الوباء ، فيقتل مليونين ويصيب أكثر من تسعين مليونا.
هل يصدق أهل الأرض ما تقوله الصين ؟.
هذا السؤال يعيدنا إلى القرابين البشرية من زمن الصين التاريخية إلى زمن الصين الشيوعية.
لا يوجد كتاب في تاريخ الحضارات بما فيها كتب الرحالة العرب ( نماذج : وول ديورانت ـ ارنولد توينبي ـ سليمان التاجر ـ ابن بطوطة ) لا تتحدث عن القرابين البشرية المقدمة إلى آباطرة الصين القديمة ، فإمبراطور الصين القديمة كان معروفا بأنه ” إبن السماء ” ، فهو يؤدي ” واجب خدمة السماء ” ، وأهل الصين يؤدون ” واجب خدمة إبن السماء ” ، وبما يشمل ذاك ” الواجب ” حرق الصينيين وقتلهم وتحويلهم قرابين فداء لإبن السماء. .
في العصور الحديثة لم تتغير صورة الصين ولا مشاهد قرابينها ، وأية مراجعة للمطبوعات العربية الصادرة في بيروت والقاهرة ( ” الهلال ” ـ ” المقتطف ” ـ ” المشرق ” ـ “العرفان ” ـ ” المنار” ) ، ما بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، سيُلاحظ استمرار صورة المشاهد القربانية وشيوعها داخل الأسر والعائلات الصينية ، بحيث كان يصار إلى قتل الأطفال أو بيع الأبناء والإناث خصوصا خشية من الفقر والجوع .
هل هي ثقافة القراببن المتأصلة ؟.
بعد انتصار الثورة الشيوعية عام 1949، لم يخرج القائد الشيوعي ماو تسي تونغ عن هذا الإطار، إنما في سياق متحول من ” خدمة السماء ” إلى ” خدمة الإيديولوجية ” ، ففي ” القفزة الكبرى ” ( 1958 ـ 1961) قُتل ملايين الصينيين ، وفي ” الثورة الثقافية ” ( 1966 ـ 1976) قُتلت ملايين أخرى ، وهذه ” الثورة ” استدرك بعض الصينيين مخاطرها متأخرين فوصفوها ب ” مأساة الثورة الثقافية الكبرى ” ، مثلما ورد في أحد أعداد مجلة ” الصين اليوم ” عام 2002 وبحسب ما يقول ماو تسي تونغ : ” إن السلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية ” ، وللمخيلة أن تفتح آفاق تصورها لعمليات الإبادة والقتل ، حين تتخذ الممارسة السياسية من مقولة ماوتسي تونغ شعارا لها وقاعدة لعملها .
قيل في العام 2020، ثمة مؤشرات إلى أن مئات آلاف الصينيين ( إن لم يكن أكثر ) المصابين بوباء كورونا جرفتهم الجرافات ودفنتهم جماعيا في مقابر جماعية ، من دون إعلان ولا إعلام ولا خبر .
قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون ، و لكن من يأتي بالخبر اليقين من الصين ؟ من يجرؤ على الإستقصاء والتحري ؟ من هو طويل العمر الذي بإمكانه أن يُجري حوارات مع أطباء صينيين أو باحثين ومحللين صينيين يقولون ما لا يقوله الحزب الحاكم ؟ .
هل سينتظر العالم ثلاثين سنة أو أربعين سنة حتى يعرف حقيقة مأساة الصين وكورونا ، مثلما انتظر الفترة نفسها حتى جرت معرفة حقائق ” القفزة الصناعية الكبرى ” و “الثورة الثقافية الكبرى ” ؟.
هل ضحايا كورونا من أهل الصين هم القرابين الجدد؟.
في الصين كما هو معروف ، حوالي مليار ونصف مليار نسمة ، لايجرؤ واحد منهم عن الخروج قيد انملة عن النظام المرصوص ، خبطة واحدة عسكرية للمليار ونصف المليار إنسان ، رقصة واحدة ، إيقاع صوتي واحد ، لحن واحد ، نص واحد ، كتاب واحد ، إعلام واحد ، فن واحد ، حزب واحد .
هل هذا مجتمع ؟
هل هذا نظام مُرتجى ؟ نظام يحدد كيف يفكر الناس ، وكيف يأكل الناس ، وكيف يلبس الناس ، وكيف يغني الناس وكيف ينظمون أشعارا ؟.
إن أكثر الإشكاليات وأخطرها والمفترض نقاشها مع ” دعاة الصينوية ” ترتبط بإعتبارهم الدكتاتورية فضيلة ، والديموقراطية رذيلة ، وأما لماذا الديموقراطية رذيلة ؟ فلأنها تأخذ بأكثرية أصوات وآراء الناس ، وبما أن الناس وفقا لدعاة النظام الدكتاتوري حمقى وعبيطين ، فيجب سوقهم وحكمهم بالعنف والقوة عن طريق” فوهة البندقية ” كما قال ” القائد “ماوتسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي في الصين وكما قال ” الخليفة “أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم ” داعش ” في العراق وبلاد الشام .
و إلى تلك الإشكالية ، تتفرع أخرى ، وهي ناجمة عن ذلك الخلط المشين بين الديموقراطية والغرب ، فلا يفرق” دعاة الصينوية ” بين الديموقراطية وبين الغرب وامبريالياته الظالمة والشيطانية ولا يفصلون بين الديموقراطية كقيمة انسانية أنتجها العقل البشري عبر آلاف السنين ، وبين السياسات الغربية العدوانية .
ومن تلك الإشكالية تولد إشكالية ثالثة ، محورها أن” دعاة الصينوية ” تأخذهم غفلة وعي ومنخفض إدراك بأن الشيوعية الحاكمة في الصين ، أو ما تبقى منها ، هي منتوج فكري غربي ، وهذا يعني أن هؤلاء الدعاة ” ينبذون الديموقراطية الغربية ( لو صحت أن الديمقراطية غربية ) ويستلهمون الشيوعية الغربية ، وفي الحالتين ينطلقون من الغرب ويعودون إليه .
وأما الإشكالية الرابعة ، فتنطلق من قاعدة رفض الإقرار بأن الصين قوة إمبريالية ناهضة ، مثلها مثل اية امبريالية أخرى تلجأ في طور اكتمالها ونهضوها إلى القوى الناعمة ، وهذا ما فعله نابوليون بونابرت حين غزا مصر عام 1798 واصطحب معه مجموعة من العلماء حملوا أول مطبعة عرفها المصريون وهي مطبعة بولاق ، وكذلك جرى الأمر مع ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر حين زار امبراطور المانيا فيلهلم الثاني السلطنة العثمانية عام 1898، وجال خلالها على اسطنبول وبيروت ودمشق والقدس معلنا عن مشروع ” سكة الحجاز ” ، فيما الأبحاث الإستشراقية الألمانية كانت أخذت مأخذا من دراسة المجتمعات المحلية بهدف معرفة كيفية التعامل معها ، وأما الولايات المتحدة ، فيمكن القول إن امبرياليتها تأسست بصورة رئيسة على مبادىء الرئيس توماس وودرو ويلسون (1918) ، بعد إطلاقه ما يُعرف ب ” المبادىء الأربعة عشر ” الداعية إلى السلم العالمي وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
والإشكالية قبل الأخيرة المفترض نقاشها مع ” دعاة الصينوية ” ترتبط بسؤال وجواب عما إذا كانت الصين تعمل على تقديم نموذج مناهض ومتعارض مع الغرب أم انها تعمل على أخذ نصيبها من النظام الغربي والإندماج في هياكله ومؤسساته بحيث تصبح جزء منه وليست تابعة له ؟.
سابع الإشكاليات الخطيرة والأخيرة تتمثل في السؤال الكبير: هل كان المفكر الجزائري مالك بن نبي على حق حين تحدث عن قابلية العرب للإستعمار ؟
هذا السؤال عمره مائة سنة على الأقل ، ومرده إلى أن فئة عربية في مطلع القرن العشرين نادت بالنموذج الإنكليزي ، وفئة أخرى نادت بالنموذج الفرنسي ، وبعد الحرب العالمية الثانية ، ذهبت فئة عربية إلى المناداة بالنموذج السوفياتي ، وفئة أخرى بالنموذج الأميركي ، وفي كل هذه الإستنداءات والإستنجادات ، كان العرب ضحايا لصراعات النماذج الخارجية ووقودا لحروب الدول الكبرى ، فبماذا سيختلف النموذج الصيني؟.
إن السؤال المطروح : ماذا عن نموذجنا ؟ ماذا عن طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد؟ وهل استيراد نموذج الإستبداد الصيني يناسبنا ويدغدغ أفكارنا ويداعب مشاعرنا ؟.
ماذا عنا نحن العرب ؟ ماذا عن عقلنا وفكرنا ؟
ومرة أخرى وأخيرة : ماذا عن نموذجنا ؟..
……………………………………………………..
* كاتب سياسي، اعلامي وباحث .