” المريض الوهمي” لموليير: الحياة تراجيديا لمن يشعر .. وكوميديا لمن يفكر
“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
لا تزال مسرحياته تقدم في المسارح الكبيرة والصغيرة على حد سواء، ولا يزال الناس بمختلف طبقاتهم وأذواقهم يقبلون على مشاهدتها اقبالا منقطع النظير. وهو القائل:” الحياة تراجيديا لمن يشعر … وكوميديا لمن يفكر”. انه جان باتيست بوكلان الملقب بموليير.
موليير مؤلف كوميدي مسرحي فرنسي ولد عام 1622 وتوفي عام 1673. كتب مولییر نحو ثلاثین عملا مسرحیا خالدا تجلت من خلالها أفكاره المتنوعة. وأول ما یلاحظ في مسرح مولییر أنه لا یتحدث عن عامة الشعب ولا عن عموم الناس، لكنه یركز على طبقة النبلاء بغية إبراز عیوبها في قوالب كومیدیة مرحة متعددة. وقد أبدع مولییر على وجه الخصوص في كومیدیا الموقف والتباسات الفهم عند شخصیاته المسرحیة، كما أبدع في الرسم الكاریكاتیري لبعض الشخصیات مثل الطبیب والبخیل ومحدث النعمة والمدعي والحمقاء والمتعلمة وغیر ذلك، وصنع من بعضها شخصیات أصبحت نمطیة نقلت عن فكره إلى كل الثقافات واللغات. وقد اقتبس “موليير” معظم أعماله الأولى من المسرح الهزلي الإيطالي وكان قد ذاع صيتها في تلك الآونة. وبعد أن نالت شهرة واسعة، عاد إلى باريس وقرر البقاء فيها بعد أن لاقى عناية كبيرة من قبل الملك “لويس الرابع عشر”، وقام بتقديم العديد من العروض المسرحية النثرية والشعرية للبلاط الملكي وللجمهور الباريسي. مسرحية المريض الوهمي آخر مسرحية كتبها موليير ولكنه أصيب بوعكة صحية على خشبة المسرح وهو يمثلها ثم سقط أمام كل الناس ليفارق الحياة بعد ساعات فقط بعد تقديم العرض الرابع لها. فما قصة هذه المسرحية؟
تدور أحداث المسرحية حول آرغان، إحدى شخصيات موليير الأكثر قوة وجاذبية إلى جانب تارتوف ودون جوان. وآرغان هنا ثري ورب عائلة تزوج بعد زواج أول من امرأة ثانية هي غير أم أولاده. وحين تبدأ المسرحية، يعيش في وهم أنه مريض ويبدأ التحضيرات لكتابة وصيته وتعيين من سيرث أمواله. وهكذا تدور من حوله مؤامرات الطمع وتضارب الغدر والإخلاص والحقد والانانية. لقد سلم آرغان قدره إلى الأطباء، إذ اعتقد أنه مريض وأنه لا محالة سيكون ميتاً بعد قليل. لذا راح يرتب الأحوال من بعده، وصار يخطط لتزويج ابنته آنجيليك التي تحب كليانت، فتعتقد آنجيليك أن العريس المعين هو حبيبها وتقبل بسعادة. لكن آرغان كان قد اختار توماس، الطبيب الشاب وابن الطبيب لابنته. لذا يبدأ الضغط على هذه الأخيرة لكي تطيعه مهدداً إياها بحرمانها في وصيته إن هي لم تذعن لإرادته. وهنا تدخل بيلين زوجة آرغان الثانية معلنة قدوم الكاتب العدل الذي سيغير الوصية بناء على رغبة آرغان. وتكتشف الخادمة طوانيت، حليفة آنجيليك، أن الكاتب العدل ليس سوى العشيق الخفي لبيلين التي ما تزوجت آرغان إلا طمعاً في وراثته. وهكذا ينتهي الفصل الأول بعد أن يكشف أمامنا كل الحبكة منذ البداية، ويمكّننا طبعاً من توقع كيف ستكون النهاية. إذ لا جديد هنا: في النهاية سينتصر الطيبون وينكشف الأشرار، ويكتشف مريض الوهم أنه ليس مريضاً وأن الأطباء إنما كانوا يضحكون عليه لابتزازه حالهم في هذا حال زوجته بيلين وعشيقها. أما الجديد هنا، فهو أسلوب عرض الأحداث وتطورها إذ في الفصل الثاني، وبتدبير من طوانيت يتم إدخال العاشق كليانت إلى البيت كموفد من أستاذ الموسيقى الذي يدرّس أنجيليك. وهكذا، في مقابل مؤامرة بيلين، تحيك الخادمة طوانيت مؤامرتها المضادة، وسط مناخ حافل بالمفارقات والحوارات والأغاني والمناورات والصراعات الخفية، لينتهي الأمر كله بموافقة آرغان، بعد أن شفي من مرضه وفضح رياء زوجته والمحيطين بها، على زواج آنجــيليك وكليانت ويعم الفرح المكان.
استخدم موليير في مسرحية المريض الوهمي أسلوب كوميدي متقن في طرح المشكلة ومعالجتها، وظّف فيها وبشكل دائم الشخصية الرئيسة، ليحمّلها ما يمكن أن نسميه الموقف المضاد الذي يعمل موليير على مواجهته، ودحض أفكاره، وكشف زيفه وأخطائه، عبر تكتل باقي الشخصيات في مواجهة هذه الشخصية التي لا يعمل موليير على جعلها مكروهة من قبل المشاهدين بقدر ما يهمه العمل على جعلها مثيرة للشفقة بسبب الحالة المؤلمة التي لا بد وأن تبلغها في نهاية المسرحية، نتيجة طيشها وتعنتها وإصرارها على المضي في ارتكابها لأخطائها. هذه المسرحية ملهاة أو كوميديا تحاول إضحاك المتفرجين وتنتهي الملهاة عادة نهاية سعيدة. لكن الملهاة قد تطرح بين المواقف المضحكة موضوعات في غاية الجدية. وأحيانا تعتبر المسرحية الهزلية شكلاً مسرحيا مستقلا،ً لكنها في الواقع نمط من أنماط الملهاة، يعتمد على المواقف السخيفة والحركات التهريجية. ونهض موليير بالملهاة الفرنسية إلى مستوى رفيع في مسرحياته المليئة بالنقد الاجتماعي والأخلاقي، دون أن تفقد طابعها المسلي وروحها المرحة. وطغت شهرته عبر الأجيال على شهرة معاصريه المأساويين.