اللبنانيون في ميشيغن.. حكايات موجعة عن التفاعل مع عذابات الوطن وآلام أهله .. وسهرات “ليخا” لنسيان مُرَّ الواقع
بقلم عباس صالح *
قبل ان تبلغ حكاية الوطن مجد حزنها، وقبل ان تكتمل فصول جولتها الجديدة ، تختمر على هوامش الأحداث حكايات وادعة فياضة بالحنين، والشوق الجياش الى أرض الآباء والاجداد ومهد الذكريات البريئة، ومسقط الحب الطاهر، وبلد الحبيب الاول …
انها حكايات اللبنانيين المنتشرين في أربع رياح الارض، منذ فجر التاريخ، الذين تزداد أعدادهم تباعاً، مع كل جولة عنف جديدة، وعند كل نكبة، او انتكاسة اجتماعية خطيرة تهدد استقرار البلاد وتقوض سبل العيش الكريم، وترفع التحديات المتعلقة بالحياة في أرض المحن والازمات المتلاحقة، فضلاً عن الاعتداءات المتواصلة عليه من جانب “دولة الارهاب المتوحش“. ومطامعها التاريخية بنسف صيغته الفريدة منذ “إقامتها عنوة” قبل نحو 78 عاماً واكثر …
هي حكايات الوطن المجروح في صميم كبريائه، والتي تروى بشكل تلقائي في كل تجمعات اللبنانيين في المَهَاجِر، كما هو الحال في أكبر تجمع اغترابي لبناني، في ولاية ميشيغن الاميركية، حيث تعد مدينة ديترويت تحديداً عاصمة اللبنانيين والعرب في الولايات المتحدة، ومركز الثقل فيها يتوزع بين منطقتي ديربورن، وديربورن هايتس، اللتين توصفان بأنهما مدينتين لبنانيتين بامتياز وجنوبيتين على وجه التحديد.
اللبنانيون في ميشيغن استوردوا معهم “لبنانيتهم” بكل تفاصيلها، ويعيشون وكأنهم داخل مدنهم وقراهم، ضمن تكتلات ومجموعات وفرق مؤتلفة، ومتجانسة تخدم بعضها، وتعمل على مساعدة الوافدين حديثاً لتمكينهم، كما تعيش هموم الوطن الأم بأوسع حيِّز، وتتفاعل بحيوية مع مصائب أبنائه، تفاعلاً عملانياً، سواء على صعيد تشكيل خلايا الدعم والتبرعات للفقراء والمحتاجين، ولو من ذوي القربى في الوطن المنكوب، اوعلى مستوى الحراك السياسي من خلال رفع الصوت انتخابياً لفرض وقائع جديدة على اجندة السياسة الخارجية الاميركية، كما حصل مؤخراً مع الرئيسالاميركي المنتخب دونالد ترامب الذي كان قد تيقن قبيل حصول الانتخابات الرئاسية بنحو اسبوع من خسارته لأصوات الكتلة اللبنانية خصوصاً والعربية عموماً إن لم يتعهد بوقف الحرب في الشرق الاوسط، فأذعن متعهداً بذلك خطياً وشفهياً قبل ان يُستقبل في احد مطاعم ميشيغن ويلقي كلمته الشهيرة التي اعاد فيها التزامه بايقاف الحرب، وحصل بنتيجتها على نحو 100 الف صوت من الكتلة العربية عموماً . وبذلك تكون الكتلة اللبنانية استخدمت اصواتها لفرض خياراتها السياسية على المرشح الفائز برئاسة الولايات المتحدة لإنقاذ البلد من حرب الابادة التي يتعرض لها، واخراجه من براثن الوحش.
سهرات حول الموقدة و”ليخا”
بالعودة الى الحديث عن مجتمعات المهاجرين، وبعيداً عن هموم السياسة، يمارس اللبنانيون “لبنانيتهم” بكل تفاصيلها وأبعادها، لا سيما في تمسكهم بالعادات والتقاليد والزيارات المتبادلة، حتى ان معظمهم يشكلون حلقات ومجموعات مؤلفة من أصدقاء متحابين ومتفاهمين ومنسجمين مع بعضهم البعض، يسهرون ليلياً ويتبادلون الحديث عن اوجاع الوطن وآلام بنيه، ويدلي كل منهم بحصاده اليومي من الاخبار الواردة من بلاد الارز، فيما ينتقل بعضهم الى طاولة لعبة “الليخا” للترفيه عن نفوسهم المتعبة والمشحونة بالانباء السلبية واخبار المجازر اليومية التي تقترفها اسرائيل على ارض لبنان بشكل يومي.
حلقات اللبنانيين من هذا النوع ومجموعاتهم كثيرة ومتنوعة، ولا مجال لتعدادها بمجملها، انما يمكننا الحديث عن مجموعتين او أكثر، للدلالة على طبيعة الحياة الاجتماعية للبنانيين في ميشيغن، والتي تعد استنساخاً مطابقاً تماماً لطبيعة العيش في وطنهم الام لبنان. وبما يندرج في سياق التمسك بالهوية اللبنانية وخصوصياتها.
في هذا الصدد تبرز مجموعة أصدقاء قدامى من الضباط المتقاعدين من مختلف الاجهزة العسكرية والامنية في لبنان الى جانب شخصيات اخرى، يسهرون في منزل صديق الكل، منيب بيضون، (ابو علي) وهو رجل مثقف عميق، خلوق، وطيب، ومضياف، ذو ماض حافل بالمناصب والنفوذ في بلدان اخرى قبل ان يحط به الترحال في اميركا ويتقاعد ويأنس مع رواده من الضيوف الدائمين الذين يتسع قلب ابو علي لهم، رغم كثرتهم، قبل ان يتسع لهم بيته، وأبرزهم: العميد الطبيب المتقاعد نبيل بيضون، العميد المتقاعد نبيل صعب، العميد المتقاعد محمد ابراهيم، والفاعليات الاجتماعية مثل ؛ غسان نمر بيضون، حيدر بيضون وشقيقه غسان، وابو علي بزي وآخرين.
(الصورة لمنيب بيضون).
المجموعة الحيوية الاخرى قوامها عدد من رجال الاعمال الذين تقاعدوا بعد كفاح طويل في الحياة، فأسسوا ما تركوه لابنائهم وأُسرهم من اعمال وتفرغوا للعيش بسلام مفترض، لولا المنغِّصَات من اخبار الهدم اليومي لما يشمل ممتلكاتهم في الوطن الصغير وعذابات ابنائه، وتشردهم من بيوتهم.
هذه المجموعة تتمحور وتتجمع حول شخصية عماد عواضة (ابو محمد) ابن مدينة النبطية، وهو رجل إجتماعي فريد في لباقته، ودماثة أخلاقه، ورفعة قيمه، وفرادة ثقافته، وكرم أخلاقه، وحُسن ضيافته، وهو الصديق المحب للكل، والذي يحتوي الجميع بسعة صدره.
(في الصورة : عماد عواضة)
عمل عواضة في بداية شبابه في السعودية ثم انتقل الى افريقيا، قبل ان تحط به الرحال فيالولايات المتحدة حيث أسس اعمالاً متعددة في عدة ولايات اميركية، ليستقر به المطاف في ميشيغن، وأخيراً سلم الراية لأولاده الناجحين في اعمالهم، وتقاعد مع أصدقائه المحبين الذين يسهرون عنده بشكل شبه يومي، وهم الاصدقاء :احمد حجازي (ابو حسن) وشقيقة ابراهيم، الحاج ماجد صفي الدين، حسين ناصر بيضون (ابو يوسف)، حسن بيطار (ابوعلي)، علي مراد (ابو حسين)، توفيق وشقيقه حسن قمح (غوما)، غسان دعيبس، أركان وشقيقه محمد ياسين، خليل وزهير حراجلي، وآخرين ممن يتمسكون بالترابط فيما بينهم من خلال التلاقي اكثر من مرة يومياً، فتراهم يجتمعون احيانا في الصباح اذا جمعتهم مناسبة، ثم يتداعون الى لقاء عصروني إما في ال “park”، (حديقة عامة) اذا كان الطقس مناسباً، او في “fairlane mall “ (اقدم متجر في ميشيغن) اذا كان الطقس عاصفاً. ثم يعودون فيجتمعون مساء في منزل عماد عواضة حيث تدور لعبة “الليخا” على ايقاعات التشجيع وبث الحماس واعلاء الاصوات من اللاعبين وجمهور المتفرجين..
تلك عينات صغيرة عن مجموعات المجتمع اللبناني التي تعيش في ديترويت.. اما الكلام عن الأدوار الجبارة للنساء اللبنانيات في ميشيغن فتلك قصص تشبه الاساطير، سنتطرق للبعض الميسور منها في تحقيق لاحق.
مع ذلك، تبقى حكايات، وحكايات جميلة وشيقِّة معلقة على هوامش الوطن المشظى شتاتاً في اربع رياح الارض، تستحق ان تُروى وتُدوَّن للتاريخ .. وربما للذكرى او العِبَر عن جاليات استطاعت ان تبني بكدها وعرقها أمجاداً تشبه الاحلام ويخلدها التاريخ…
—————-
* صحافي، رئيس تحرير “الدنيا نيوز”