العملية العسكرية الروسية على اوكرانيا وخديعة مؤتمر مينسك..!

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

لا تكاد دول الاتحاد الاوروبي على اختلاف نظمها السياسية، ومنابعها الايديولوجية التاريخية والمستجدة، كما مصالحها الآنية والمستقبلية تخرج من مأزق حتى تتورط أو تسقط في آخر. من وجهة نظر المراقبين والباحثين على تنوع مناهلهم ومنطلقاتهم أعتماد ثبوت حيادية بحثية فإن مقاربتها المعالجات ابتغاء حلول لطالما اتت مرحلية تفرز قرارت وتوصيات لا تنسجم مع الواقع او على الاقل لا تستشرف بقدرٍ النتائج الجيوسياسية كما التداعيات والانعكاسات على القارة العجوز..
بالتالي فإن إمكانية العودة نظريآ الى الخلف الزمني وفق معادلة عالم الفيزياء الفلكي Ronald Mallett لتصحيح الواقع الافتراضي لا تزال متعذرة فيزيائيآ، ما يعني إستحالة نجاح آلة الزمن The Time Machine في احداث تغيير او تعديل لمجريات الحاضر بما يضمن تلافي احداث وكوارث.. لذا يمكن الاكتفاء بقراءة الماضي إستنباطَ تعديلٍ في الاهداف والاستراتيجيات، عَلَّ ماكينة الحرب والدمار تتوقف :

1- في 5 سبتمبر2014 بعد مشاورات ومساع ديبلوماسية ضمت مجموعة الاتصال الثلاثية الدولية “روسيا؛ اوكرانيا؛ ومنظمة الامن والتعاون في اوروبا OSCE” اضافة الى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل وقع ممثلو المجموعة الثلاثية وقادة جمهوريتي دونيتسك الشعبية (DPR) ولوغانسك الشعبية (LPR “دون الاعتراف بوضعهما السياسي” بروتوكول “مينسك” Minsk عاصمة بيلاروسيا، الذي قضى بوقف القتال وانهاء حالة الحرب في منطقة دونباس..
2- بعد انتقادات متكررة لحلفائه الاوروبيين، وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى بروكسل في 11 حزيران 2018 للمشاركة في قمة حلف شمال الاطلسي NATO، حيث اعلن ان دولا عديدة في الحلف “لا تفِ بالتزاماتها” على صعيد الانفاق الدفاعي؛ مما اربك ورفع منسوب الشكوك لدى المسؤولين الأوروبيين حول نوايا سيد البيت الابيض الذي يكثر من تصريحاته العدائية تجاههم..

3- في نفس الفترة من العام 2018 اعرب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والمستشارة الالمانية ميركل عن دعمهما فكرة انشاء الجيش الاوروبي الموحد، وذلك بالتوازي مع قرار الرئيس ترامب خروج بلاده من “معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى” Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty المبرمة في 8 ديسمبر 1987 مع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، متهمآ روسيا بخرق بنودها. ردت الاخيرة آنذاك بالإعلان عن تعليق التزاماتها المنصوص عنها في الاتفاقية..

4- في القمة الاولى التي عقدت بين الرئيس ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية HELSINKI يوم 16 تموز 2018 أشاد ترامب باللقاء مع بوتين معتبرآ المحادثات: «انها ليست سوى البداية، مؤكدآ نجاحها مع اتفاقهما على مواصلة الحوار»..! ما كان لافتآ بعد القمة الثنائية تعهد الرئيس ترامب عدم السماح للاتحاد الاوروبي “استغلال” الولايات المتحدة، معتبرآ دول اوروبا تستفيد “بشكل غير عادل” من حماية الحلف الاطلسي كما التجارة مع الأميركيين”..


في الاعتبارات إخفاقات؛ *إذ رأى سيد البيت الابيض ان مقترحات انشاء الجيش الاوروبي الموحد “اهانة” للولايات المتحدة والحلف الاطلسي. تاليآ التزم معظم قادة الحلف العسكريين التوجه الاميركي بالعمل على تثبيط القدرات الدفاعية الأوروبية المستقلة، تجنب ازدواجية وإفشال قدرة على الانفراد في اتخاذ القرارات الاستراتيجية المستقلة.. في نفس السياق الأمين العام لحلف الناتو، بنس ستولتنبرغ اعتبر ان “الاتحاد الأوروبي غير قادر على الدفاع عن نفسه دون الناتو، ويجب ألا يحاول (الاتحاد) تشكيل جيش أوروبي مشترك”..
*لاحقآ، وفي مدى زمني قصير اتت العملية العسكرية على اوكرانيا لتؤكد قصورآ اوروبيآ في مواجهة روسيا حافز تثبيت تموضع لا مناص منه تحت حمائية مظلة ال NATO؛ وإزاء الارباك الامني في استيعاب اللاجئين والتدهور الاقتصادي كما تقلص موارد الطاقة، تصاعدت الدعوات والتحركات من شرائح اجتماعية وسياسية عدة لا سيما في المانيا وفرنسا تطالب بالانسحاب من حلف مقره الرئيسي في بروكسل العاصمة البلجيكية لكن مرجعيته وقيادته في البنتاغون الاميركي ولو بصورة غير مباشرة..

*مؤخرآ، في حديث مع موقع “Zeit” الالكتروني كشفت انجيلا ميركل عن ” ان اتفاقيات مينسك لعام 2014 كانت محاولة لمنح أوكرانيا الوقت الكافي لتسليح نفسها والاستعداد للحرب ضد روسيا”، معبرة عن (شكها في أنه كان بإمكان بلدان الحلف الاطلسي آنذاك أن تفعل كل ما تفعله الآن لمساعدة أوكرانيا).. تلقف الكرملين الاعتراف ب (الخديعة) سندآ لتصريح ميركل ليعبر عن استيائه. حيث صرح الرئيس بوتين للصحفيين في Bishkek عاصمة قرغيزستان: “كنت دائما افترض أن قيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية ستتصرف بصدق معنا؛ بأمانة لم يكن هذا متوقعا بالنسبة لي. إنه محبط؛ بصراحة لم أتوقع أن أسمع شيئا مثل هذا من المستشارة الألمانية السابقة”.
*الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو علق بما مفاده “أنهم لم ينووا أبدا تنفيذ اتفاقيات مينسك، وهذا ما يجعل الوضع القائم مشهدآ جديدآ تماما”. بما يبرر العملية العسكرية الروسية؛ مضيفآ “لا يغير ذلك حقيقة من هاجم من، لكنه يغير الموقف مما كان يحدث في أوكرانيا منذ عام 2014”..

في سياق متصل؛ من الواضح ان ما ادلت به انجيلا ميركل عن تأخير متعمد وقرار مماطلة مبطن بتنفيذ اتفاقيات مينسك بهدف إعداد أوكرانيا للحظة المواجهة العسكرية مع روسيا، يقوض مصداقية الاطراف الغربيين الموقعين كما يؤكد التواطؤ الجيوسياسي لبريطانيا والولايات المتحدة واوكرانيا لدفع موسكو الى ساحة الصراع المدمر ..
في المكاسب؛ تعتبر الولايات المتحدة ان الاراضي الاوروبية خط الدفاع الاول عنها؛ ان الحرب التي تشنها روسيا تكشف مقومات قدراتها العسكرية ومدى نجاح وفعالية اسلحتها المتطورة؛ ان غرقها في المستنقع الاوكراني سينهكها عسكريا كما سيساهم في تراجع اقتصادها ويحد من طموحاتها الجيوسياسية.

في العناد الاستراتيجي زاد من عقلانية يمتلكها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اذ يمثل انقطاعآ حادا عن الماضي السوفياتي وصلة وصل قوية مع روسيا القيصرية؛ كما يعتبر ان بلاده تتعرض لتحدٍ غير مسبوق من الغرب الاوروبي والاميركي منذ استعادة شبه جزيرة القرم عام 2014؛ في هذا الاطار ومع هذا الاصرار المُحفز اعترافآ المانيآ بخديعة مؤتمر Minsk سجل خلال هذا الاسبوع ما يلي: زيارته مقر قيادة القوات المشاركة للإطلاع على مستجدات الميدان، كما الاستماع لمقترحات القادة العاملين في كل الاتجاهات العملياتية. اجتماع موسع مع كبار القادة العسكريين للوقوف على اداء الجيش الروسي خلال العام المنتهي وتحديد مهامه في العام المقبل. قراره مواصلة العملية العسكرية في أوكرانيا لحماية سكان إقليم دونباس، واستكمال تحرير الأراضي الروسية الجديدة في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومقاطعتي زابوروجيه وخيرسون من قوات كييف، وحلفائها من المرتزقة الغربيين والبولنديين وفق بيان الكرملين..
أخيرآ؛ سيحل ربيع العام المقبل بعد شتاء اوروبي قاسٍ ليعيد الامور الى بداياتها، حيث سيكون احياء اتفاق مينسك حجر الزاوية في صياغة اية حلول مستقبلية، ثوابتها الغير قابلة للتفاوض: اوكرانيا منطقة نفوذ خاصة وبالمطلق خارج الحلف الاطلسي، شرعية دولية تسبغ على المناطق التي اقتطعت من اوكرانيا وانضمت الى الاتحاد الروسي..!

بيروت في 20.12.2022