العرب وجيرانهم إيران وتركيا وأثيوبيا

 


بقلم : توفيق شومان

جيران العرب الثلاثة إيران وتركيا وأثيوبيا دول ـ أمم ، تنطبق عليها كل مفاهيم علوم السياسة .
إيران وأثيوبيا دولتان موغلتان في التاريخ ، بل في تاريخ ما قبل التاريخ ، وتركيا دولة تاريخية توازيهما في مفاهيم وتقاليد الدولة ـ الأمة وإن كانت لا توازيهما في التاريخ .
هذه دول ثابتة ، فيما الدول العربية القائمة ، ما عدا مصر ، دول غير ثابتة ، أو على الأقل من غير المعروف إذا كانت ستبقى ثابتة .
بحسب الفيلسوف هيغل ، هناك دول قوية بالتاريخ ، وهناك دول قوية بالفعل ، والدول القوية بالتاريخ حتى إذا كبت نهضت ، وحتى إذا احتُلت لا تتلاشى ، بينما الدول القوية بالفعل ، إذا تفكك فعل قوتها غارت وتلاشت .
الدولة ـ الأمة ليس بالضرورة ان تكون دولة تاريخية أو عميقة في التاريخ ، والمثال الروسي ساطع في ذلك ، فبعد موتين ، موت أول بعد سقوط روسيا القيصرية ونظام آل رومانوف ، وموت ثان بعد سقوط الإتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي ، كانت روسيا تنبعث من جديد بعد كل موت ، وإثر كل انبعاث تعود روسيا عملاقة وقوية وسخية في تقديم تقاليد الدولة ـ الأمة التي تبلورت مع إيفان الرهيب ( ت ـ 1584) وتماسكت مع بطرس الأكبر(1661ـ 1725) وترسخت مع كاترين الثانية (1729 ـ 1795).
الأتراك ، ومنذ الدولة العباسية لهم تقاليد عريقة في إدارة الدولة ، منهم خرج السلاجقة وحلفاؤهم ، وهم جدود السلطنة العثمانية ثم الدولة التركية الحديثة ، وعلى ما يقول المفكر المصري جمال حمدان في كتابه ” استراتيجية الإستعمار والتحرير” إن الإمبراطورية العثمانية هي أول موجة خرجت من المحاربين الرعاة الرحل ونجحت في إقامة دولة مستقرة طويلة الأمد وقطعت مع جذورها الرعوية المترحلة .
الإيرانيون ، مثل الهنود والصينيين ، لم يكونوا إلا في مراحل الإحتلالات خارج إطار الدولة ـ الأمة منذ كيومرث كلشاه (ملك الطين) الموزاي لآدم (ع) ، أي قبل التاريخ ، مثلما قال الرئيس الفرنسي شارل ديغول لدى اعترافه بجمهورية الصين الشعبية عام 1964 ، إذ بعد كل سقوط للدولة ( الدول ) الإيرانية : الفيشداددية ـ الكيانية ـ الأشغانية ـ الساسانية ـ الصفوية ـ القاجارية ـ الشاهنشاهية ـ الإسلامية ، كانت تبقى الأمة وتبني دولتها من جديد .
أثيوبيا ، او الحبشة بلغة العرب الجغرافية القديمة ، هي الوحيدة في التاريخ المعروفة ب ” الإمبراطورية الخفية ” ، وقد قارعت إمبراطوريتين من جيلها : الفرعونية والفارسية ، وطالما نسب آباطرة اُثيوبيا أنفسهم إلى سلالة الزواج الذي انعقد بين النبي سليمان والملكة بلقيس ، ومن ممالكهم : مملكة ” كوش ” على ما يذكر هيرودوتس الإغريقي في تاريخه ، ثم ” أكسوم “، ومبكرا اختلطت الأرثوذكسية بالخصوصية المحلية لترقى أثيوبيا بذلك الى مصاف الأمة ، ومتميزة بهذا الإرتقاء عن سائر القارة الأفريقية إذا ما تم استثناء مصر ، والمغرب إلى حدود معقولة ، ومنذ ما قبل التاريخ ما فتئت أثيوبيا قائمة .
تقف الحياة في مصر عند حدود نهر النيل ( والسودان بصورة أقل ) ، وإذا كان المصريون القدماء قد اعتقدوا بأن نهر النيل ينبع من السماء ، وكانوا يقدمون له القرابين المختارة من أجمل الفتيات العذارى بهدف إرضائه ، فإن إشكالية حديثة تبلورت منذ عقود عدة ماضية بين مصر وأثيوبيا حول مياه نهر النيل ، ومع تفاقم التعقيدات على الإشكالية المذكورة ، خرجت أفكار ومواقف تطرح فكرة الحرب مع أثيوبيا ، وعلى قاعدة تقول : نحارب أثيوبيا لتحيا مصر .
هذه فكرة ، تزيد تعقيدات على التعقيدات وتراكم إشكالية فوق الإشكالية ، وعلى ما يقول محمد حسنين هيكل ( حوار مع لميس الحديدي ـ في عامي 2013و2015) إن أساس فكرة الحرب مع أثيويبا خطأ على خطأ.
بصرف النظر عن المدى الجغرافي البعيد والفاصل بين مصر وأثيوبيا ، فإن حربا مصرية ـ أثيوبية كما جرى في عامي 1875 و1876، تقتضي اجتياح السودان ، وهذا الأمر لا يمكن أن يتصوره خبراء الشؤون العسكرية في الوقت الحاضر، كما أن الضربات الجوية التي تفترض من خلالها أن تقطع الطائرات المقاتلة مسافات جوية طويلة تُلقي على المصريين صعوبات لوجستية وتقنية معقدة للغاية كما يقول معهد “ستراتفور” الأميركي في دراسة صادرة عنه في صيف العام2013.
يقول محمد حسنين هيكل ، إن الرئيس جمال عبد الناصر ، لم يعمل طوال فترة حكمه ( 1954ـ 1970 ) على استفزاز إمبراطور أثيوبيا هيلا سيلاسي ، بالرغم من سلوك كل منهما خطا سياسيا مناقضا للآخر، بل إن عبد الناصر عمل على أن تكون العاصمة الأثيوبية أديس أبابا مقرا لمنظمة الوحدة الأفريقية حين تم إطلاقها في عام 1963 .
ووفقا لرأي محمد حسنين هيكل ليس أمام مصر سوى الإتفاق مع أثيوبيا ، ذلك أن خوض الحرب في بيئة أفريقية معادية لن يكون في صالح مصر ، فدول حوض النيل الأفريقية ـ إذا تم التغافل عن السودان ـ ستقف إلى جانب أثيوبيا ، وهذا المشهد قد ينسحب على مجمل الدول الأفريقية ، الأمر الذي سيعني خروج مصر من أفريقيا كما خرجت من آسيا .
ويطرح المفكر المصري جمال حمدان ، على مصر فكرة جليلة ومبدعة وغير مسبوقة ، فهو استن مصطلحا سماه ” الإستفراق ” على غرار الإستشراق ، أي التوجه نحو أفريقيا والإهتمام بها وإقامة أفضل العلاقات معها .
سوريا والعراق ، والأخير بالتحديد ، يتشابهان مع الحالة المصرية إذا تم استحضار نهري الفرات ودجلة ، وإذا كانت مصر هبة النيل كما قال أبو التاريخ هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد ، فإن دجلة والفرات هما شريانا الحياة بالنسبة للعراق ، والنهران ينبعان من تركيا ، وإذ تكونت الحضارات العراقية القديمة على ضفاف هذين النهرين ، وتستمد الأراضي الزراعية في العراق الحديث خصوبتها من دجلة والفرات ، فإن السلة الزراعية السورية الكبرى متشكلة من ضفاف نهر الفرات أولا وأساسا ، ومن نهر دجلة بدرجة أقل.
وفيما تشكل سوريا والعراق مدخلي تركيا إلى المشرق العربي ، فالمنفذ التركي يشكل هو الآخر مصبا لنفط العراق، وحين يصار إلى استدعاء الإشكالية الكردية ، تبرز الحاجة المشتركة إلى ” مائدة ” حوار ضرورية لإدارة هذه الإشكالية المعقدة والمعمرة منذ عقود ، وبالقدر الذي تحتاج فيه سوريا والعراق إلى إعادة إعمار وإنهاض ، مما قد يفيد الجانبين ، فتركيا هي الأخرى بحاجة إلى الإسهام بإعمار وإنهاض سوريا والعراق بهدف الحفاظ على وتيرة نمو اقتصادها.
وإذ يبدو الحديث في هذه المرحلة عن مصالحات أو تفاهمات بين سوريا والعراق من جهة وبين تركيا من جهة ثانية ، أشبه بحديث خرافة ، فإن البحث عن عناصر إطفاء التوتر بين الطرفين العربيين والطرف التركي ، يندرج في سياق البحث عن عن رؤية استراتيجية لعلاقات طبيعية تفرضها الطبيعة ذاتها الناشئة من أصل الحياة ، أي الماء ، بمعزل عن تقويم أو تقييم السياسات التركية الحالية.
بالإتجاه صوب إيران ، من المفيد أولا النظر إلى ساحل الخليج حيث تتمدد إيران على طوله ، وحين يتقدم مشهد مضيق هرمز إلى الواجهة ، حيث ربع صادرات النفط العالمية تمر عبره ، تقتضي موازين المصالح أن تنضبط العلاقات بين دول الخليج كافة ، وفي وقت يأخذ سباق التسلح مأخذا من موازانات الدول المعنية ، مما ينتج تداعيات غير محمودة على مشاريع التنمية ، ويدفع التوتر المستمر إلى استخدام العامل المذهبي من قبل بعض الأطراف ، فإن تصورا متخيلا لحرب مفترضة في الخليج ، لن تكون نتيجتها إلا فوضى وخراب ودمار مستطير بين ضفتي الخليج .
في مقال سابق ، طرحتُ إطارا عاما لفضاء اقليمي موسع ، واستكمال لما سبق أطرح للنقاش في هذا المقال البنى التحتية لهذا الفضاء انطلاقا من هذه المداخل الثلاثة :
ـ أن يصار إلى تشكيل ” بيت للتفكير ” المصري ـ الأفريقي لتبني مصطلح المفكر المصري الراحل جمال حمدان حول ” الإستفراق ” .
ـ أن يصار إلى تشكيل ” بيت للتفكير ” الإيراني ـ التركي ـ السوري ـ العراقي ـ اللبناني ـ الأردني ، بهدف جعل الحلول الإقليمية من صناعة دول الإقليم .
ـ أن يصار إلى تشكيل ” بيت للتفكير ” الإيراني ـ الخليجي ، يكون هدفه ترتيب المصالح الخليجية عامة .
هي مادة للنقاش
+ : انظر توفيق شومان : لا شرقية لا غربية
………………………………………………………………..
*كاتب، اعلامي وباحث