“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
البردّوني: “شـــوطنا فوق احتمال الاحتمال فوق الصبر، لكن لا انخذال
نغتلي، نبكي، على من سقطوا إنما نمضي لاتمام المجال
نبــلـــــعُ الأحجـــــارَ، ندمى، إنّـــما نعزف الأشواق، نشدو للجمال
مذ بدأنا الشوطَ جوهْرنا الحصى بالدم الغالي، وفردَسْنا الرمال
نبتني لليمن المنشود من سهدنا جسرا وندعوه: تعال”
يقول الأديب الإلماني غوته:” من يود فهم شاعر، فليذهب إلى بلاد الشاعر”. وعندما التقيت شعرك وأدبك أدركت أن من يريد رؤية اليمن ويشم رائحة حقولها وأوديتها فما عليه إلاّ أن يستحضرك، يا عبد الله البردّوني، فقد كنت مرآة اليمن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمن أنت؟ “حسنا إليك بطاقتي الشخصية: أنا من مواليد العام 1929 في قرية “البردّون” بمحافظة “ذمار”. أصبت بالعمى ما بين الخامسة والسادسة من عمري نتيجة إصابتي بمرض الجدري والذي حملت آثاره على وجهي طوال عمري. وفي “ذمار” درست المرحلة الابتدائية، وفيها قرأت النحو واللغة والدين والفقه، وبعدها انتقلت إلى “دار العلوم” في صنعاء عام 1949 وتخرجت منها العام 1953. وبعد التخرج بقيت في دار العلوم مدرساً إلى العام 1962، ثم التحقت بالإذاعة مشرفاً على البرامج الثقافية”.
كيف تعلّمت، واستطعت التغلّب على مشكلة فقدان البصر. هذا أمر مدهش حقا…
“في عمر السادسة تعلمت القـراءة كلـها على السماع بما فيها معرفة الحروف وأداؤها، ثم تعلمت القرآن الكريم كاملاً كتابة ثم ترتيلاً تم تجويداً ثم تعلمت العلوم، ثم علوم القرآن. ثم قرأت كتب اللغة، نحواً وصرفاً وكتابة بالسماع وعرفت قواعدها بالسماع وتعلمت العبادات والأحكام وأصول الدين بالسماع ثم تعلمت علم الكلام والفلسفة القديمة عند العرب. وهكذا اعتمدت على السماع، لأن السماع أوجد عندي حاسة ثانية أو أذنا ثانية. الأذن التي تسمع الصوت وتلك التي تسمع صوت الصوت فأنا مثلاً لا أسمع صوتك كما يسمعه بعض الناس، بل أشعر أن له خضرة وحمرة شفقية وبرتقالية وهذا حسب حالة الأذن الصوتية. فالحاسة الفنية عند الأعمى أقوى لأنه لا يرى بالعين المجردة، ولكنه يتصور والتصور يستوعب ما لا تقع عليه العين، كما يستوعب الذي تقع عليه العين.”
كانت حياة البردّوني في منزله كالراهب في صومعته ، يتابع الإصدارات الجديدة في الحياة الأدبية والفكرية والثقافية، يمتلك ذاكرة قوية، يقرأ ويكتب معظم ساعات النهار.
و”نكت” البردّوني و”قفشاته” تحتاج إلى أكثر من وقفة فقد كان قادراً على السخرية في أكثر المواقف صرامة وجدية، وكان منزله يشبه الصالونات الأدبية يرتاده الطلاب والمثقفون ليستمعوا الى أحاديث صاحب الدار ويستمتعوا بمجالسته.
استطاع البردّوني بقوة بصيرته أن يرى ما يعجز المبصرون عن رؤيته وادراكه وأصبح شاهدا على شعبه وأمته وعصره بل كان واجهة اليمن الى العالم. واستمر في إعداد أغنى برنامج إذاعي ثقافي في إذاعة صنعاء وهو “مجلة الفكر والأدب” بصورة أسبوعية طيلة الفترة من عام 1964 حتى وفاته.
كانت اليمن تتشكل في قصائد عبد الله البردّوني وتولد في كل كلمة من كلمات شعره، وهذا ما يتوضّح لنا في قصيدته “لعينيك يا موطني”.
البردّوني: أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكباً وغرف
افصل للياء وجهاً بهيجاً وللميم جيداً، وللنون ظرف
أصوغ قوامك من كل حسن وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف”
غير أن الوطن العربي كان المجال الأرحب للبردّوني وشعره:
البرودوني: دعني أغرّد فالعروبة روضــــــتـي ورحاب موطنها الكــــــبيـــر رحــــــــــابي
فدمشق بستاني ومصر جداولي وشعاب مكة مسرحي وشــــــعابي
وسـماء لبنان سـماي وموردي بردى ودجلة والفــــــــــرات شـــــرابي
وديــــــــار عمان دياري، أهلهـا أهلي واصحاب العراق صحابي
تميّز البردّوني بسخريته اللاذعة، هذه السخرية التي أعدت حولها العديد من دراسات الماجستير والدكتوراه.
البردّوني: أعلنت سلطانة القمل اجتماعا رؤســــــاء البــــــقّ لبّـــوها ســـــــــــــــراعا
وإليهــــا أقــــــبل الأقطـــاب من مـملكاتِ الســـــــــــــــلِّ مثــنـى، وربـــاعـــــــــــــــا
جاء شـــــيخ الدود في حرّاســــه زارداً بحـــــــــراً، ومعــــتماً شــــــــــــــــــراعا
قـــــــــرروا في الجلســــــة الأولى بأن يصلـــــــــــــوا ما مات بالأمس انقطاعا
أن يشــــــــــــيدوا الليل إيواناً وأن ينجــــــروا الأيّـــــام بابــــاً وصــــــــــواعا
قرروا في الجلسة الوسطى بأن يطـــــبخوا الليل ويعطوه الجيــــاعا
شـــــكّلوا بين الأفاعي لجــــنــــــةً أســـــــكتوا بيــــن الصراصير النزاعا
أصدروا عفواً عن القتلى كما، كلّفوا الأشــــــجار بالنوم اضطجاعا
أصغى البردّوني لأصوات اولئك العابرين السرّيين في التاريخ اليمني، الذين لم يكونوا صامتين ابداً، وكان خطابهم شفهياً متداولاً بين الناس. استعاد البردّوني ذلك الخطاب المنغرس في ذاكرة التاريخ، والذي يتداوله الناس الى اليوم برغم انه لم يحفظ بين دفتي كتاب، بل حفظه الناس في القلوب والسلوك.
والبردّوني صاحب معارك تبدأ ولا تنتهي. فكما كانت قصائده تثير غضب الحكام وسخطهم وحتى هلعهم فإن مقالاته السياسية وتحليلاته كانت تثير انتقاداً وردود أفعال حادة وقوية.
أسألك أيها الشاعر البردّوني، لو خُيّرت بين البصر أو الشعر، ماذا تختار؟ “أنا لا أفضل شعري على رؤية البصر، ولكنني قد ألفت العمى حتى أصبحت أخاف الإبصار. فإن الحواس ليست قيماً بشرية: فالفأر أقوى حاسة شم من الإنسان، والغراب أحدّ بصراً من الإنسان، لأن الحواس والغرائز مشتركة بين الإنسان والحيوان كما أن العاهات مشتركة بين الناس والحيوانات.وربما نتذكر أن عاهة العمى هي التي أنبتت في المعري مئات العيون الداخلية لأن السماع بالأذان تقليدي، والرؤية بالعيون الجارحة اعتيادي، أما الرؤية بمواطن القلب، ومواهب العقل فهو اجتياز للموروث والمعتاد “.
” قم يا صريع الوهم واسأل بالنهى ما قيمته الإنسان ما يعليه
وأسمع تحدثك الحــــــياة فإنها أستاذة التأديب والتفقيه
وأنصت فمدرسة الحياة بليغة تـملي الدروس وجل ما تمليه
سلها وإن صمتت فصمت جلالها أجلى من التصريح والتنويه”
كان البردّوني كتابا مفتوحا عرك الحياة وأمتلأت نفسه بتجارب عديدة ومتنوعة وشديدة السخرية بكل ما حوله. عاش شظف العيش وفقراً إلا من حب الناس له والتفافهم حوله، وواصل كتاباته الزاخرة حتى توقف قلبه النابض بالحياة في الثلاثين من شهر آب اغسطس عام 1999 .
كان البردّوني ذلك الشاعر المتوحد في هموم شعبه وقضايا مجتمعه وينتمي إلى جماعة الشعراء الذين يعيشون التاريخ وتحدياته، ولا يكتفون بالتأمل والوقوف من بعيد. البردّوني هو الضمير الجمعي لليمن، حسب وصف الباحث “قادري حيدر” الذي كتب أن البردّوني “عاش حياته بالطول والعرض حاملاً مشعل الحرية مواجهاً لكل أشكال الطغيان والاستبداد والقمع بكل صنوفها وألوانها حتى آخر لحظة في حياته المليئة بصخب الحياة وعنفها.
عاشها كما لم يعش أحد غيره، عاشها ملتحماً بأدق تفاصيل حياة الناس البسطاء، عاش حقائقها ووقائعها كلها، إنه سيرة حياة وطن وتاريخ شعب، وفي اسمه وكفاحه، شعره وأدبه وفكره يمكننا اختزال تاريخ أمة، إنه التاريخ الحي للوطن”.
_______________