الزعماء اللبنانيون يبتزون المانحين والعالم : تعطونا بلا إصلاحات.. أو نميت الشعب جوعاً
بقلم : عباس صالح*
لقد سُحِقَت كرامة الإنسان في بلادي، كما سُحِقَت كل القيم البشرية وأكثرها قداسة، إذ كيف لمخلوق سُلِبَ منه قوت عياله أن يتحدث عن كرامة الانسان؟!
كل ما يجري في لبنان اليوم يُظهِرُ بوضوح، لا لبس فيه، ان غالبية الطبقات الاجتماعية من اللبنانيين، باتت تتضور من الجوع وينخر البرد عظامها، ويميتها العطش، وتقتلها الأمراض، وهي ما تزال تصرخ من الألم، والفاقة، ولكن بأصوات مخنوقة ومكتومة بعناية، حيث لا يبدو أبداً انها بلغت يوماً آذان من يجب ان يسمعوا في الداخل والخارج على حد سواء …
فزعماء الداخل المتمترسين خلف قطعان رعاياهم، ما زالوا يعيشون داخل أبراجهم الذهبية والماسية والفضية على انواعها، يتلذذون برغد العيش على وقع آخر صيحات الموضة العالمية واكتشاف آخر موديلات السيارات الطيارة، وآخر الابتكارات في صنع السيجار الكوبي المخصص لاسمائهم، والمأكولات المترفة المستوردة طازجة، ومن اقصى اعماق المحيطات أحيانا… من الواضح ان هؤلاء الزعماء الذين أثروا من دماء وآلام وجراح وتعب اتباعهم، منفصلين تماما عن واقع شعبهم البائس الذي لم يعد له وجهة للشكوى سوى الله، وبصمت مريب.
فلو ان هؤلاء القادة أعاروا أسماعهم للحظات الى أنَّات المكلومين والجياع والعطاشى والمحتاجين إلى الدواء المفقود لمداواة الآلام، أو انهم حتى قاموا بحسبة اقل من بسيطة على ثمن الخبز والماء فقط لأي عائلة مؤلفة من أب وأم واربعة اولاد سيتضح لهم ان كل عائلة من العائلات اللبنانية المنكوبة تحتاج الى 6 ملايين ليرة على الاقل ثمن خبز حاف، وماء للشرب فقط من دون ان نضيف اليهما أي سلعة أخرى او اية مصاريف اخرى . هذا إذا احتسبنا ان كل فرد من افراد العائلة يحتاج رغيفاً واحداً فقط في كل وجبة معنى ذلك انهم سيحتاجون الى ستة ارغفة في كل وجبة اي ما يعني ربطة ونيف باعتبار ان ربطة الخبز لم تعد تزيد عن 5 ارغفة وثمنها 25 الف ليرة، وذلك يعني انالعائلة تحتاج الى 4 ربطات خبز يوميا ما مجموعه 100 الف ليرة. وكذلك الماء اذا احتسبنا ايضا قنينة مياه معدنية صالحة للشرب ليتر ونصف لكل فرد من افراد العائلة طوال اليوم فإن ثمنها على اختلاف انواعها وتسمياتها يناهز ال15 الف ليرة اي ما مجموعه ايضا 90 ألفا ل6 افراد واذا كان المصروف اليومي لهاتين السلعتين حوالى 200 الف ليرة فإن ذلك يعني ان الماء والخبز فقط يحتاج ان تخصص لهما العائلة 6 ملايين ليرة شهرياً.
قياس المصاريف لا يتوقف علىالخبز والماء فقط لكنها عينة صغيرة من الارقام المهولة التي تحتاجها العائلة ليستمر افرادها بالبقاء على قيد الحياة، وبحسبة بسيطة ايضاً يتبين ان ذلك يتطلب ميزانيات بيتية تفوق المئة مليون ليرة شهرياً للعائلة اذا اقتصرت علىالاساسيات فمن أين تأتي تلك الملايين في بلد ما تزال قيمة الحد الادني للأجور 675 الف ليرة اي ما يوازي 14 دولاراً اميركيا فقط ، علماً أن الكل يدرك ان الغالبية الساحقة من اللبنانيين تم تسريحها من اعمالها ووظائفها جراء الانهيار الاقتصادي والمالي الذي عصف بالبلاد، وباتت عاطلة عن العمل وتواصل حياتها إما بالاستعطاء من الاقارب وغيرهم، او من خلال بيع ما لديهم من املاك ومقتنيات وحاجات وأثاث وسوى ذلك، وذلك يجري في ظلال سلطة متوحشة يتحكم بها حيتان وكارتيلات لا يفكرون إنسانياً ابداً، إنما على العكس تماماً، تراهم يستثمرون في مصائب الناس وأزماتهم ويستنبطون وسائل وآليات تمكنهم من زيادة “عمولاتهم” و”ضرائبهم”، ويختلفون علناً وجهاراً على التقاسم والتحاصص فيما بينهم، من دون خجل ولا وجل، بينما الطبقات الشعبية برمتها تزداد غرقاً في دوامة الجوع والعطش والامراض.
وهنا تتجلى بوضوح تام عمليات الابتزاز والاسترهان على الصعد كافة وكل المستويات العليا والدنيا، فالابتزازات التي يمارسها التجار والكَسَبة والقطاعات الاخرى على بعضها البعض ليست معزولة عن الابتزاز الكبير الذي يعتمده اركان السلطة والقادة اللبنانيين في وجوه ابناء شعبهم أولا، وفي وجوه الهيئات الدولية والمؤسسات العالمية ثانياً، بل متماهية معها ومنسَّقة تماماً ومحمية ومرعية من الوزارات والادارات المعنية بحماية المواطن .
وفي هذا الاطار يمكن لنا ان نعد ما لا يحصى من أمثلة على هذا النهج الرخيص الذي يعتمده القادة في لبنان، والذين ما زالوا حتى الآن مجمعين على رفض كل المساعدات الخارجية الضخمة والاموال والبرامج التمويلية اذا كانت مشروطة بالاصلاح، وحتى ولو كان الاصلاح المطلوب من الخارج صورياً ، فإنهم يرفضونه مع المساعدات والاموال المرصودة ، وبهذاالمعنى فإنهم يأخذون اللبنانيين رهائن حقيقية ويتركونهم فرائس للجوع والعطش والمرض اذا لم يحصلوا على حصصهم من هذه البرامج الانقاذية!.
فالبنك الدولي على سبيل المثال لا الحصر، كما جميع الهيئات الدولية المانحة، وبعض الحكومات الخيِّرة قرروا ومنذ اندلاع الازمة، قبل ثلاث سنوات منح لبنان مساعدات وقروض وهبات عينية ومادية بمبالغ كبيرة وضخمة الى جانب برامج تمويلية للعديد من المؤسسات والمبادرات والنشاطات الجماعية والفردية، لمساعدة اللبنانيين على تجاوز المحن والازمات، لكنهم اشترطوا على المسؤولين اللبنانيين التعهد بصرفها على قواعد شفافة ونظيفة، وبعيداً من التحاصص والسرقات،لكن المسؤولين في لبنان رفضوا وما زالوا يرفضون هذا الانقاذ الذي تستفيد منه القواعد الشعبية مباشرة من دون المرور بحساباتهم، وبذلك فإنهم يتخذون من الجوعى اللبنانيين رهائن أمام المجتمع الدولي الذي بات ببعض أجنحته يشعر بمصائب اللبنانيين ويتوجع عليهم أكثر من قادتهم، الذين يتخذون من هذه المآسي متراساً جديداً للقول لكل من يعنيه الامر، ان اي مساعدات وبرامج واموال تأتي يجب ان تسلَّم إلينا لنصرفها ونتصرف بها وفق القواعد القديمة التي درجنا عليها منذ عشرات السنين، بلا سؤال او جواب ، ومن لم يعجبه الامر فلا يساعدنا. وهذه الدوامة هي التي تتكرر ومتواصلة منذ ثلاث سنوات، حيث بعض الهيئات ومنها البنك الدولي تطلب وباتت تترجى من السلطة اللبنانية الاصلاحات ولو شكلية، والزعماء اللبنانيون لا يكترثون لا بالمناشدات ولا بالمطالبات الخارجية، ولا يسمعون أنين الجوعى والمحتاجين، بل على العكس، فإنهم يتخذون من مصائب اللبنانيين عنواناً لاسترهانهم امام المجتمع الدولي، وكأنهم يبتزون العالم بالقول:إما تعطينا وفق قواعدنا وطرق تمويلنا المعهودة، او اننا سنبقي على “ستاتيكو” التجويع والتعطيش ولو مات معظم الشعب اللبناني، لنحملكم وزر موتهم أخلاقياً!.
اذن فلتكن ملاحظة للتاريخ، وليس للرجال، على قاعدة ان الرجال ماتوا، والضرب في الموتى حرام: في أزمة الجوع التي ضربت لبنان منذ العام 2019 . المجتمع الدولي وكل الهيئات المانحة تترجى الزعماء في لبنان ان يفكوا أسر رهائنهم من الفقراء المعدمين والمسحوقين، ولو بإصلاحات صورية لتمويلهم وسد رمقهم، فيما يواصل الزعماء رفضهم بتعنت وعناد ذلك بالقول : إما نسرق المساعدات ونسطو عليها وفق “قواعدنا” او لا نريدها ولن نسمح بتمريرها للمحتاجين مباشرة!.
————————————
*صحافي – رئيس تحرير “أخبار الدنيا“