الحمار لا يركب حمارًا…
بقلم : محمد إقبال حرب*
زرت بلدتي شمسطار بعد سنوات طويلة من الهجرة فتسارعت إلى ذاكرتي صور كثيرة بدءًا من زحام أهل الضيعة عند عين حمدة خاصة في فصل الصيف. أرى البعض يملأ الجرار وغيرهم يسقي البهائم والنساء منهمكات بتصويل القمح أو غليه في المراجل “الخلاقين”، ناهيك عن اصطفاف الكثيرين أمام المطحنة. مرورًا بمغامراتنا، أنا وأترابي، في المغاور المترامية والنزول إلى داخل بئر ضهر الصوان بالحبال أو اقتحام مغارة عين حمزة ليلًا لنواجه “الجن” الذي لم نحظ بمواجهته. لكن الصورة الأشد وضوحًا كانت في سباق الحمير الذي كنا نعدّه فجأة بعد سرقة حمير الأقارب والجيران فتلاحقنا الشتائم كتراتيل نتخذها تعاويذ مضحكة على طريق حمدة باتجاة بحيرة حوش-باي. من أشهر الشتائم التي انصبت علينا “يلعن أبوكن واحد يقول للتاني”.
فعلًا، تمنيت أن أركب حمارًا من بيتنا إلى حوش-باي كما كنت أفعل في طفولتي ومراهقتي. لكن هيهات لرجل وقور مثلي أن يبحث عن حمار في هذا الزمن لأن وصمي بالجنون سيكون حتميًا.
مرّت الأيام متسارعة من ثورة 17 تشرين مرورًا بالكورونا إلى صفقة العصر التي أدت إلى نهب البلد وسرقته من حراس الوطن المؤتمنين على المال والحلال كما الدستور والأرض والإنسان. تساقطت أوراق شجرة الحياة من دوحة الوطن بخريف قاس حمل عواصف الذلة والمهانة إلى كل بيت لا يحمل غطاء سياسيًا أو مذهبيًا. هبطت قيمة الليرة إلى رقم غير مسبوق بعد أن ضربها الدولار في حلبة الاقتصاد ضربات قاضية متلاحقة بينما فريقها الطبي قد ختم على حالتها بالـ “ميئوس منها” وقرر اتخاذ إجراءات الدفن في سرية تامة. المهم أن ارتفاع الأسعار الجنوني أخفى السلع الغذائية بخفة يد لا يعرفها إلا المحتكرون. ومن ثم اختفت الأدوية بقدرة شيطانية لا يقدر عليها إلا زعماء مافيات محترفون. سلعة تلو الأخرى دخلت المخازن تحت حراسة مشددة من أفراد العصابات والمافيات الذين يتمتعون بحصانة أعلى من القضاء الذي لم يفلح باستدعاء مسؤول إلى جريمة تدمير المرفأ.
ليس بالجديد أن أخبركم أن البنزين اختفى وأصبح الحصول على “هقة حشيشة” أسهل من شراء غالون بنزين. منذ بضعة أيام وأنا أسعى للحصول على ما يشفى عطش سيارتي دون جدوى. ركنتها بعدما أدركت أن القدر قد فعل ذلك من أجلي. نعم أنا السبب في شح مادة البنزين لأن الله يريدني أن احقق حلمي وأشتري حمارًا لأركبه بفخر في عصر التردي.
بحثت كثيرًا، سألت من أعرف ومن لا أعرف عن حمار “ابن ناس” دون الوصول إلى نتيجة تحقق حلمي. أخيرًا صادفت كهلًا أعرفه منذ طفولتي. ذكرته بنفسي، حيث كنت أسرق حماره طفلًا لأسابق حمير الجيران. ضحك كثيرًا وذكرني بالخير ثم سألني عن حاجتي فأخبرته بحاجتي إلى حمار. لم يتحمل الطلب، جلس على حجر إلى جانبه مما جعلني أعتذر عن طلبي الذي أثار حفيظته وكبريائه كما شعرت.
قال: لا عليك يا بني، لم أغضب منك ولم اُحرج، لكن الحقيقة طعنتني بسكين قاتل.
قلت وبي خوف على مشاعر الكهل الذي هو جارنا أبًا عن جد: لم أفهم !!!
قال: يا بني المشكلة ليست في اقتناء حمار، بل في معرفة الحمار الأصلي من الحمار الهجين.
قلت: أعذرني، لم أفهم ما تقصد بعد؟
قال: يا بني، معظمنا أصبح حمارًا، فهل يركب الحمار حمارًا؟
شعرت بالإهانة، لكنني تريثت بالحكمة سائلًا بنبرة غضب: أتقصدني بهذا الجواب؟
قال: يا بني، أنت تعرف كم أحبك فأنت بقايا صديقي وجاري على هذه الأرض. لقد سمي الحمار حمارًا لصبره لا لغبائه أو جهله كما يشاع. الحمار يتحمل الإساءة ولا يعترض إلا برفسة أو نهقة ثم يعود إلى سابق عهده عبدًا لصاحبه. والناس في هذا الوطن يصبرون ويصبرون، يتمردون لسويعات ثم يعودون إلى زريبتهم، أقصد بيوتهم خانعين. ينتظرون صدقة من جلادهم حتى يأمنوا يومًا آخر تحت خيمة العبودية.
تمردت على كلامه قائلًا: أعترض وبشدة على وصفي والمجتمع بالـ “حمير” والـ “عبيد”، ألم يقل الله عزّ وجل “إن الله مع الصابرين”
قاطعني قائلًا: يكون الصبر على الشدائد والمحن والابتلاء لا على المهانة والذلة. من قال لك أن تصبر على من يسرق قوت يومك ويسد منافذ الحياة في وجهك؟ ألا تعلم أن الله يغفر ما يشاء إلا أن يشرك به. خنوعك للزعيم شرك بالله لأنك تؤمن أنه هو من يؤمِّن سُبل حياتك ونسيت أنك ولدت حرًا. في هذا الوطن ألف إله وألف ألف معبد للزعماء تحت شعارات دينية، حتى دور العبادة أصبحت بمعظمها منابر لآلهة الفساد. يا بني عليكم أن تتحرروا بفكركم وايمانكم المختلط فمزيج الولاء هو أصل البلاء.
صمت قليلًا ثم قال: شراء الحمار هو استقدام لمن يواسيك محنتك رغم أن الذكريات هي التي طفت على بحيرة وجودك، به تأنس بتبادل الشكوى لأنك أخذت منه كثيرًا من صفاته رغم اختلاف التكوين الجسدي. لقد أصبحت هجينًا كما أراد صاحب السلطة.
صرخت بالكهل لأستر حقيقة مقولته: لا أعرف كيف أستحمل اهاناتك الواحدة تلو الأخرى. ها أنت تصفني بلباقة حمارًا. لقد أخبرتك منذ البداية بطلبي البسيط لأستعيد بعض الذكرى لا أن…
قاطعني: لا يهم، لا يهم. عُد مع أقرانك إلى حظائركم وأعيدوا بنيانها لتكون بيوت عز وكرامة كما يجدر ببيوت الأحرار. إذ أردت أن تستعيد ذكرياتك وتركب حمارًا لتشعر بصدى طفولتك المرحة يجب أن تكون حرًا، فالحمار لا يركب حمارًا.
—————-
* أديب وكاتب لبناني