بقلم : السيد صادق الموسوي
مع بدء كل عام هجري جديد يتحرك عشرات ملايين المسلمين الشيعة في أنحاء العالم لإظهار التعاطف مع قضية مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله وأهله وقلّة من أصحابه في مستهل عام ٦١ هجري في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام في أرض كربلاء على يد جيش كبير أرسله عبيد الله بن زياد مكلفاً من يزيد بن معاوية؛ ويتشح أغلب مناطق الشيعة والمساجد والحسينيات في أقطار الأرض بالسواد، ويلبس كثيرون من الشيعة الثياب السود حزناً على فقد آخر أفراد العترة النبوية الشريفة، ويُسيّرون المواكب الحاشدة ويقيمون مجالس العزاء في كل بيت وزقاق وشارع وعلى كل مفترق طرق.
وفي الجهة الأخرى يقيم بعض الناس وخاصة في بعض بلاد المغرب العربي حفلات فرح وابتهاج ومسيرات فيها التطبيل والتزمير ويوزعون الحلوى على الجمهور في يوم عاشوراء.
ويظهر بعض العلماء على الشاشات الأرضية والفضائية ليُدينوا ما يصفونه بالبدعة ويدعوا إلى نبذ الخرافات التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، لكنهم في الوقت نفسه يعظّمون الإمام الحسين عليه السلام ويؤيدون مسيرته ويدينون عمل يزيد في مجابهة سيد شباب أهل الجنة.
وبعض آخر يدين بكل صراحة خروج الحسين، ويعطي الحق ليزيد بن معاوية ليقتل سبط رسول الله صلى الله عليه واله لأنه يرى أن يزيداً هو الخليفة الشرعي، وأن المنازع له والمتمرد على سلطانه مهدور دمه ويجوز قتله بغضّ النظر عن شخصية المشاغب على حكم الخليفة ومكانته في الإسلام.
لا بد في البداية من معرفة هدف الأنبياء ورُسُل الله سبحانه إلى العباد إذ يقول الله عزّ وجلّ: ( لقد أرسلنا رُسُلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )، حيث حدد الله سبحانه مهمة الرسل والغاية من إنزال الكُتُب السماوية بـ ( ليقوم الناس بالقسط )، وعليه فإن فقدان القسط بين الناس وشيوع الظلم والجور من جانب الحكام يتناقضان مع أساس مهمة رُسُل الله منذ آدم عليه السلام حتى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ومتى مارس الحاكم الجور وتسلط بالظلم ولم يقبل النصيحة لإقامة العوج وتصحيح المسار فإنه لا يمكن أن يدّعي أي ارتباط له برسُول الله صلى الله عليه واله بل بجميع أنبياء الله عليهم سلام الله، وإن واجب من يقدر على إصلاح هذا الحاكم أو الإطاحة به أن لا يتردد في ذلك لحظة واحدة لأن ( وما الله يريد ظلماً للعالمين ).
ثم إن أصل تبوّء الحكم والسيطرة على أمور البلاد والعباد يحتاج إلى مسوّغ شرعي ومبرر منطقي، لأن عدم وجود قاعدة ثابتة ومستمرة يجعل مقدرات الشعوب والأمم تحت رحمة من يملك أدوات التطميع والتهديد حيث يستطيع المرء وبتهديد السيف أن يأخذ البيعة لنفسه ويبسط سلطته على طول العالم الإسلامي وعرضه، وإن أبى أحد أو تردد يكون مصيره القتل.
إن هذه الفوضى في مجال الحكم، تجعل المجتمع البشري يعيش في أسوء من حياة الوحوش في الغابات، إذ هي تبحث عن شبع بطونها فحسب، وإذا ما شبعت فإنها لا تفتك بأي حيوان صغيراً كان أو كبيراً بل لا تأبه به أصلاً، فيما الإنسان الذي يدّعي أنه متفوق على غيره من المخلوقات يمارس قتل أخيه الإنسان من دون أن تكون له حاجة في جسد المقتول، بل إن الحيوانات لا تفتك ببني نوعها فلا يبطش الأسد بالأسد والثعلب لا يأكل لحم بني نوعه وهو ميت، لكن البشر يقتل الذي من جنسه بأدنى ذريعة ثم لا يستفيد من جثمان المقتول شيئاً، بل يُمثّل أحياناً بجسد هذا الإنسان ويشوّهه.
إذن فإن الميزان في شرعية أي حكم أن يأتي الحاكم عبر آلية مستمدّة من لدن رب العالمين: ( فإما يأتينّكم منّي هدى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى )، حيث منبع الهداية هو الله خالق الخلق أجمعين، وتحقق الغاية وهو الوصول إلى الهداية وتأمين السعادة لا يمكن إلاّ باتّباع تعاليم الخالق العليم الخبير ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
وإن استعمال أية آلية إبداعية بشرية ستكون حتماً فاقدة لخصوصية ” العلم ” و ” اللطف ” و ” الخبرة “، وهذه الآلية لا يمكن أن تكشف حقيقة كيان الإنسان وموارد حاجاته الصحيحة وعلاج أزماته المستعصية، فيما الله الذي خلق الإنسان: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم ) و ( أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة )، فجعل ( الإنسان في أحسن تقويم )، وباهى به المقربين من ملائكته وقال: ( فتبارك الله أحسن الخالقين ).
بل إن الحقيقة في واقع الأمر أن: ( الله يعلم وأنتم لا تعلمون )، إذ كان خلق الإنسان من دون علمه، وتأمين متطلبات حياته من دون معرفته، وتعيين أجله وغاية أمره من دون إرادته، وهو الجاهل بما يضره وما ينفعه في جسمه وروحه؛ وعليه فلا بد من الأخذ بما يأتي إليه من جانب العليم الخبير عن طريق من يّكلفهم الإبلاغ ويحمّلهم الرسالة، وهذه سنّة الله منذ أول الخليفة حتى مبعث النبي الخاتم.
إن العلة من الخلق كانت شمولهم برحمة الله، والغاية من الخلق كانت تحقق سعادتهم، والرسول هو الدليل على الطريق والهادي إلى الفوز برضى الله عزّ وجلّ، فتكون السعادة في هذه الدنيا ونيل الجنة والرضوان في العقبى.
إن الرسالة الإلهية بعد تبليغها وهداية الناس إليها لا بد من تجسيدها بين العباد وتطبيق تعاليمها في المجتمع، وهكذا يتحقق الوعد الإلهي؛ وهذا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بسلطان يؤمن بالرسالة ويعلم أصوله وأحكامه ويعمل على تطبيق ما أنزل الله كما أنزل الله من دون بِدَع مُحدثة تنبع من أهواء ضالّة، بل بالتزام صادق بما جاء في كتاب الله وتطبيق أمين لسنّه رسول الله.
إن مسار الرسالة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله كلما بَعِدت المسافة الزمنية الفاصلة قد انحرف أكثر نتيجة عدم الإلتزام بالآلية الإلهية لتعيين من يقود الأمة، حتى أنه لم يعُد يبقى من الإسلام إلاّ إسمه ومن القرآن إلاّ رسمه، وصار خليفة الرسول لا يشبه في شيء صاحب الرسالة، وحاشيته لا تشبه أبداً الصحابة، فكان لا بد من تصحيح الخطأ وإقامة العِوَج.
ولا شك أن المطالب بالإصلاح يُشترط أن يكون نفسه منزّهاً عن الفساد، مشهوداً له بالطهارة والصلاح، ومعروفاً بصدق التزامه بالشريعة، وبريئاً من اختراع البدعة؛ وهذه الصفات كلها كانت مجتمعة حصراً في سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليهما السلام، وغيره لم يكن يملك مؤهلات قيادة الأمة لإصلاح الفساد المستشري في كافة مفاصل الأمة ومواجهة الإنحراف الذي بلغ حد الإرتداد عن تعاليم الإسلام كافة.
إن ما أعلنه الإمام الحسين قبيل خروجه يفصح عن نيته في التحرك ومنهجه في المواجهة، إذ قال: ” إني لم أخرج أّشِراً ولا بَطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي؛ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي رسول الله وأبي علي بن أبي طالب .
فهذه الجملات لا تحتوي على أية كلمة إستفزازية، ولا تدلّ على حالة انفعالية، ولا تعني ثورة عمياء تدميرية، بل إن المقصد المُعلن هو إصلاح الإنحراف وإزالة الإعوجاج وإعادة الأمة إلى الأيام السعيدة في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وإحياء منهج علي عليه السلام في إقامة القسط وبسط العدل بين عموم الأمة من دون تمييز، وهذا هو المعنى الحقيقي لفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يأتي هذا في وقت يتفق أغلب المؤرخين وأهل العلم والإنصاف قديماً وحديثاً أن يزيد بن معاوية كان معروفاً بتجاوزه كل الحدود الإلهية، وتجاهره بارتكاب المعاصي والذنوب الكبيرة، وسلوكه علانية طريق المنحرفين الذين لا يمتّون إلى الإسلام بأية صلة؛ لكن هذا أراد في نفس الوقت أن يتلطى بعنوان ” خليفة رسول الله، ويعطي لقراراته ونزواته صفة القداسة، ويجرّم كل من يعترض على سوء عمله ويعاقب كل من يعارض انحرافاته.
إن الذين يُبدون الحزن على الحدث الجلل هم في الحقيقة الذين يريدون السير على سنّة رسول الله صلى الله عليه واله، ولأنهم فقدوا قائداً فذّاً ورائداً مخلصاً ظلماً وعدواناً وذلك في ملحمة بطولية في حقبة تاريخية سابقة، ولم يكن قد قّدر الله لهم الحضور ليقوموا بنصرته ويُلبّوا دعوته، فإنهم بإحياء ذكرى شهادته كل عام يعلنون تأييد مسيرته ولو بعد مضي أكثر من ألف عام، وهم يصرخون بأعلى أصواتهم متبرئين من كل حاكم يشاكل يزيداً في ارتكاب المظالم وهضم حقوق الفقراء والمساكين، والتجاهر في الإتيان بمعاصي رب العالمين.
أما الذين يفرحون في يوم عاشوراء فهم في جمهورهم لا يعرفون الحقيقة، بل لفّق لهم الرواة الكَذَبَة أحاديث مجعولة تقول باستحباب إظهار الفرح في يوم العاشر من المحرم، وهذا من أكاذيب مرتزقة البلاط اليزيدي ومن بقايا الدولة الأموية في الأندلس وأقاصي شمال إفريقيا، والعجيب الغريب أن المملكة المغربية التي تتباهى بانتهاء نسب ملوكها إلى آل البيت عليهم السلام وبالتحديد إلى الإمام الحسن المجتبى سبط الرسول صلى الله عليه واله وأخي الإمام الحسين سيد الشهداء كيف تغضّ الطرف عن رواسب ممارسات الدولة الأموية هذه والتي ابتدعها يزيد في استقبال أسارى أهل بيت النبوة حين جيء بهم مغلولين من أرض كربلاء إلى مجلس يعتلي عرشه من يدعّي أنه خليفة الرسول الذي هو جد هؤلاء الأسارى، ولما رأى نصراني كان حاضراً المشهد فإنه لم يتمالك نفسه فسأل يزيداً وهو يضرب بقضيب في يده على ثنايا رأس الحسين الموضوع أمامه: ‘ رأس من هذا الذي بين يديك ؟، فقال يزيد: هذا رأس الحسين ابن بنت نبينا، فصرخ النصراني قائلاً: بئس الدين دينكم، نحن نبني أقدس كنيسة على مكان حافر حمار عيسى وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم وتُبدون الفرح والسرور بفعلتكم ؟!.
أما من يصفون مراسم العزاء الذي تعارف عليه شيعة أهل البيت ولا أقصد ما يفعله الجهال والموتورون، فإن الفطرة الإنسانية تدفع إلى التفاعل مع الأحداث فرحاً وحزناً؛ فمن يخسر عزيزاً يُبدي حزناً على فقده، ومن يلتقي حبيباً تظهر البشاشة على وجهه، وإن الشيعة لصدق مودتهم لقربى رسول الله وتطبيقاً لأمر الله: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) فإنهم يُظهرون ما في قلوبهم من عشق ومودة لسيد شباب أهل الجنة كلما تجددت المناسبة وتذكروا المصاب، وذلك في تعابير تختلف من بلد إلى بلد، ومن قوم إلى قوم، ومن ثقافة إلى أخرى، فلا وحدة في الأسلوب، ولا تشابه في الأداء، لكن المؤدّى هو إعلان الولاء لمن رفع راية رفض الظلم وقدم نفسه وعترته وأصحابه قرابين على مذبح الحرية، وأيضاً الصراخ بأعلى الصوت في وجه الظالمين والمنحرفين والفاسدين وإن كانوا يتجلببون بجلباب الدين، ويعلتون منبر سيد المرسلين، ويتسترون بلقب خليفة رسول رب العالمين.
أما الذين يرون أن خروج الحسين على حكم يزيد كان خاطئاً، وأن ليزيد الحق في فعلته، فإنهم أنفسهم اليوم يُسلّمون للحكام الفاسقين ويدعون إلى وجوب طاعة الأمراء الفاجرين، ويزكّون سلوك القادة الخائنين، لكنهم إذا غلب غير هذا الحاكم بقوة السيف أو بإرادة الأجنبي الكافر فإنهم يتخلون فوراً عن موقفهم السابق، ويتزلفون للغالب الجديد لينالوا من رضاه نصيباً، ويحصلوا من دنياه شيئاً، لكن الحقيقة أن هذه المواقف لا تتواءم مع الغاية من إرسال أنبياء الله ( ليقوم الناس بالقسط )، بل تتناقض مع صريح أمر الله سبحانه: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي )، فالمطالب بإقامة العدل وتجنب ممارسة البغي في كل عصر وزمان هو صاحب الحظوة عند رب العالمين، والظالم الباغي هو الخسيء والملعون من مالك يوم الدين، وكذلك من يُلبّي دعوة المنادي بالحرية فهو الشيعي الحسيني، أما الخانع والمستسلم لكل طاغٍ ومجرم فهو في عداد المناوئين، ومن يصرخ في وجه الفاسدين فهو السائر في موكب سبط سيد المرسلين، ومن يسكت عن حفنة الفاسدين فإنه يكون مع قتلة الحسين المجرمين، ومن يقف صامداً حتى آخر رمق يصارع الفجّار الخائنين فهو من أنصار سيد شباب أهل الجنة أجمعين، ومن يداهن أشباه يزيد من حكام بلاد المسلمين فإنه لا يكون له نصيب من شفاعة صاحب الحوض يوم الدين، لأن الله سبحانه يقول: ( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يّرَه ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يَرَه ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي
