الحروب الجيو اقتصادية والسياسية قراءة في الاتفاق الصيني الإيراني
بقلم : د. غسان الخالد
تكمن أهمية رجال السياسة في القرارات التي تتخذها، خصوصا وهي موجودة في السلطة. فهي تدل اما عن بعد نظر واستراتيجيا، او عن ضعف نظر ومواقف انفعالية آنية تزيد من المشاكل ولا تعالجها جذريا.
ولعل التصلب الأيديولوجي في اتخاذ القرارات، او مرونة المواقف السياسية التي تصل إلى حد الرعونة احيانا، هي مؤشرات عن نوعية السلطة كما هي مؤشر على أهمية القرارات المتخذة وفق تخطيط استراتيجي لا يقل عن ربع قرن في حده الأدنى، وقد يصل الى مدى نصف قرن أو أكثر.
اسوق هذا الكلام للإشارة إلى التغيير الجذري الاستراتيجي التي مرت به الصين بعيد ما نسميها الثورة الثقافية، والتي أودت بحياة الملايين من الصينيين، من خلال قرار، أقل ما يقال عنه أنه انفعالي وغير استراتيجي، وما تلاه من قرارات بالغة الأهمية اتخذها الرئيس الصيني هستيانغ، والتي جعلت من الصين وخلال عقدين أو أقل دولة اقتصادية كبرى، نافست اليابان على المركز الثالث، ثم تربعت في المركز الثاني، ومنه تنطلق، وليس من المستبعد ابدا ان يحتل اقتصادها المرتبة الأولى، وهو الذي جعل البعض يطلق على الصين لقب امبريالية السوق، ولهذا اللقب دلالات واسعة ومهمة.
يذكر مؤلف كتاب الفيل والتنين، دعابة عن الرئيس الصيني هستيانغ، مفادها أن سائقه وأثناء ايصاله إلى مكتبه وصل إلى إشارة مرور، فالتفت السائق إلى الرئيس وقال له سيدي الرفيق وصلنا إلى إشارة مرور فكيف تريد أن أذهب، هل اعطي إشارة اليسار ام اليمين؟، وكان جواب الرئيس هستيانغ بليغا، وبالغ الأهمية الاستراتيجية إذ قال له، أعط، إشارة على اليسار، واذهب باتجاه اليمين. وبعدها بعقدين كانت الصين تنافس على المرتبة الثالثة عالميا من الناحية الاقتصادية، وها هي اليوم ورغم بعض العقوبات، تنافس على المرتبة الأولى وتربك الدول الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، المتحكمة من خلال عولمة الدولار، في اقتصاديات الدول .
انطلاقا من ما تقدم يمكن النظر إلى أهمية الاتفاق الصيني الإيراني، او اتفاق المشاركة، وربما الاتفاق التشاركي.
هذا الاتفاق ادخل البلبلة حتى في العقل الأميركي حيث تجاوز الدين الصيني والمستحق على أميركا نسبة النصف تقريبا، اي ان نصف المديونية الأميركية هي للصين، وهو ما له قيمة في التحليل، وعبرة سوف نسوقها لاحقا، لكن من المفيد الإشارة إلى أن البلبلة الأميركية قد تجلت في ما قالته جين ساكي المتحدثة الرسمية للبيت الأبيض، من خلال رد فعل أن الأميركيين لم يطلعوا على بنود الاتفاق حتى يقرروا ما إذا كانوا بصدد فرض عقوبات على الصين ام لا. انه رد يعبر عن ارباك.
وهنا وتوضيحا لأبعاد الاتفاق الصيني الأميركي الجيواستراتيجي في المجالين الاقتصادي والسياسي، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية :
اولا :في مدة الاتفاق والتي حددتها الدولتين، وهي ربع قرن،. وهذا يعني أن الاتفاق اخذ بعدا استراتيجيا، مع العلم ان الفترة قابلة للتجديد. وهذا يعني أيضا أن لكل من الدولتين مصالح استراتيجية غاية في الأهمية، لجهة تأمينها والمحافظة عليها وتطويرها لاحقا بما يخدم مصالح البلدين وربما أكثر. وهنا تكمن أهمية التخطيط لمستقبل الدول.
ثانيا:الملاحظة الثانية حول حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين. فالصين تحتاج اقتصاديا إلى النفط، وتحتاج سياسيا إلى أسواق استهلاكية ابعد من إيران، ولعل ما يقال ان الاتفاقية تضمنته، وهو مد باكستان بالغاز الإيراني من خلال الصين أو عبرها، ما يعطي الاتفاق أهمية أكبر وابعد على المدى البعيد لناحية توسع جغرافية السوق، في إطار الجغرافيا التواصلية، كما التوسع في بناء الحلف الجيو اقتصادي والجيو سياسي في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية كما في محاولات الإفلات من هذه الهيمنة، خصوصا وأن الحلف الرئيس في هذا المجال ثلاثي وليس ثنائيا، إذ علينا ألا ننسى أو نتناسى روسيا ومصالحها أيضا ومجموعة دول البريكس.
ثالثا: في توقيت الاتفاقية، إذ جاءت في الوقت الضائع في التوجهات الأميركية المتعلقة بالمشروع النووي الإيراني، وفي ظل الحصار الاميركي المشدد على إيران، كما في الصراع الخفي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، أن كان بسبب التنقيب عن النفط في بحر الصين أو في الخوف الأميركي الدائم من الصين ومشاريعها في شتى المجالات، وليست حدوده تتوقف عند الصراع الإلكتروني والجيل الخامس أو ما وصلت إليه الصين فيما يقوله الأميركيون الجيل التاسع….
أن توقيت توقيع الاتفاقية، رغم مرور سنوات عن إعلان النية فيها، لهو دلالة على أن الطرفين قد درسا وبعمق جدية هذا الاتفاق، كما جدواه الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى مخاطره. وبالتأكيد فإن الجدوى السيا.. اقتصادية هي التي رجحت التوقيع. ولعل ذلك ما سيساعد على فتح الباب أمام تركيا التي لا شك قد توجست خيفة من هذا الاتفاق أيضا وهي تعيش حالة إرباك سياسي قبل توقيعه… وستبقى تعيشه بعد التوقيع إلى أن تحسم خياراتها التحالفية، خصوصا مع تنامي الخلافات مع أوروبا، ومع الدول العربية التي تدور في الفلك الأميركي.
رابعا لجهة المشاريع المنوي تنفيذها من خلال الاتفاقية في إيران وشمولية هذه المشاريع، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، التطور الكبير الحاصل في إيران في كل المجالات وعلى كافة الصعد رغم العقوبات الأميركية المتشددة، وفي ظلها استطاعت إيران تحقيق الإكتفاء الذاتي من القمح وتسعى خلال أقل من خمس سنوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز واللحوم، ندرك جيدا أن الاتفاقية ستجعل من إيران أو ستزيد من أهميتها الإقليمية والدولية، بالتكافل والتضامن مع الدول المعنية، اي الصين وروسيا ودول البريكس ولاحقا بعض الدول العربية.
خامسا وانطلاقا من ما ذكر في رابعا، بات على الولايات المتحدة النظر إلى الدول بصفة دول متحالفة وليس بصورة انفرادية أو افرادية، وعلى المستوى السياسي فإن هذا يعني الكثير.
سادسا، رب سائل يسأل عن الدولار وأهميته طالما أنه لا زال هو العملة المعولمة في الاقتصاد العالمي، وعليه اقول انه ليس من مصلحة الصين الاقتصادية والان انهيار الدولار بالشكل الذي نريد، او تريده، بسبب حجم الدين الصيني المتوجب على الولايات المتحدة الأمريكية اولا، وثانيا أن خطوات التعامل الاقتصادي في الاتفاق الصيني الإيراني بالعملة الوطنية، ولاحقا، كل دول المحور أن صح التعبير، إضافة إلى التفكير الجدي بعملة موحدة بديلة عن الدولار، وأعتقد أنها عملية سوف تتحقق لاحقا…. فالانهيار كما الصعود لا يكون إلا بخطوات ثابتة وخطوة خطوة، وبدراسة معمقة حتى يتحقق الهدف. وهنا بالذات وعود على بدء تكمن أهمية رجال السياسة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية.
————
طرابلس في 1/4/2021