“الجوع” ل كنوت هامسون: تجربة ذاتية عاش أيامها الشقية يوماً بيوم
الدنيا نيوز – دانيا يوسف
ولد الروائي والشاعر النرويجي كْنوت هامسون عام ألف وثمانمئة وتسعة وخمسين وعاش حتى عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين، غير أنـّـه ترك خلفه زوبعة لا تزال مستمرة حتى اليوم. فعلى النقيض من أغلب الروائيين الأوروبيين، كان هامسون مناصرا للنازية ومبجلا لشخصية هتلر برغم احتلال بلاده من قبل الألمان. وهو ما دفع إلى تقديمه للمحاكمة بعد الحرب العالمية الثانية، وحكم عليه بالإعدام، وهو حكم لم ينفّذ بعد انطلاق حملة مضادّة للحكم تبناها أدباء مشهورين أمثال همنغواي وفوكنر وسارتر وغيرهم. وقد خفف حكم الإعدام لاحقاً بعد ادعاء محاميه إصابة هامسون بالهرم والخرف. لكن هامسون أكّد سلامته العقليّة عبر تأليف كتاب جديد بعنوان: “تحت الدهاليز” ما حدا بالمحكمة إلى استبدال العقوبة بإخضاعه للعلاج النفسي ومصادرة أملاكه.
كتب كنوت هامسون العديد من الروايات، أبرزها: بينوني وثمار الأرض، الجوع، وثلاثيّة: تحت نجمة الخريف، المتشرّد والعازف، والبهجة الأخيرة، فضلاً عن ديواني شعر، هما: الجوقة المتوحشة، الأناشيد البريّة. وقد نال جائزة نوبل للآداب عن مجمّل أعماله عام ألف وتسعمئة وعشرين.
نشرت رواية الجوع عام ألف وثمانمئة وتسعة وثمانين، وقد استلهم كنوت هامسون أحداثها من تجربته الخاصة، فبسبب فقره، انتقل للعيش في العاصمة النرويجة أوسلو، حيث عانى فيها الجوع.
بطل الرواية “الجوع” هو الصحافي تانجن، الذي يستهل الرواية بقوله: “حدث هذا في تلك الأيام التي كنتُ فيها متشرّدا أتضور جوعا في مدينة كريستيانا، تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها”.
وتتوالى أحداث الرواية لنتعرّف أكثر إلى تانجن، الذي يعيش من مهنة الكتابة حسب الطلب، والتي جعلت منه إنسانا بائسا ويائسا يعاني الجوع والتشرّد فيصف حياته ومشاعره بأروع ما يكون. فهو يعيش أيامه الشقيّة يوما بيوم، وحياته لا تخلو من المسرّات بمجرد حصوله على مبلغ بسيط يكفي لسد رمقه عدّة أيام مقابل مقالة يكتبها بين الحين والآخر. وطانجن الذي يبحث عن وظيفة هنا وهناك يصطدم بعراقيل من أهمها عدم توفر مبلغ الضمان للوظيفة. وشيئا فشيئا تتدهور حاله فلا يستطيع حتى شراء ملابس كي يحافظ على مظهره الخارجي الذي بات مزريا بعد أن رثـّت ملابسه وبات لا يمتلك إلا عدّة العمل المكونة من قلم رصاص ومجموعة من الأوراق فضلا عن مقدرته في الكتابة التي ما عاد لها سوق يقيه حياة الذل تلك. فيعجز حتى عن دفع إيجار الغرفة التي يقطنها والخالية إلا من سرير.
وهكذا تصبح أيام تانجن مكرّرة بالمعاناة والتشرّد والجوع. الجوع الذي صار له رفيقا لا يفارقه ليل نهار حتى إنّ معدته نفسها باتت تعاف الطعام الذي يأتيها على فترات متباعدة فيتسبب له ذلك بمعاناة مضاعفة. ولأنّ الجوع شرس في آلامه فإنـّـه يضطر إلى قضم الخشب قبل أن يلوكه طويلا لتسكين آلام الجوع!
ومع كثرة الأبواب المسدودة في وجهه، رهن “تانجن” كل ما يملكه حتى القميص الوحيد القادر على تدفئة جسده الهزيل. وبرغم المعاناة، فإن كبرياءه يأبى الانحطاط لمستوى السرقة أو التسول ويصل به الحال حد الهذيان لولا تدخل العناية الإلهية في أحلك اللحظات لتنتشله وتضعه في نهاية المطاف أمام باخرة تستعد للرحيل عن المدينة فينضم لطاقمها وكل همه الابتعاد عن شبح الجوع الرابض في الشوارع بانتظار فريسة جديدة تلقى له دون رحمة أو شفقة.
اعتبرت رواية “الجوع” بداية لما أطلق عليه فترة الحداثة في الأدب الأوروبي. فالجوع هو رحلة مضنية في عالم اللامعقول يكشف فيها الكاتب عن الألم العميق الذي يعانيه كاتب شاب يواجه الموت في عالم لا يأبه بوجوده. فيمضي أيامه في رؤي وتهيؤات تسبب فيها الجوع المضني، يقصها علينا الكاتب في نثر شيق رشيق التعبير وإن كان صادما في بعض مقاطعه، لتمثل نموذجا راقيا ممتعا للرواية النفسية.
بالنسبة للكثير من النقاد، تستشرف هذه الرواية المنهج الغرائبي في نتاجات القرن العشرين. كما يدين هامسون في رواية الجوع “الحضارة المادية” وجميع مظاهرها التي “لوثت الحياة الإنسانية” وجعلتها “غير محتملة”. وقد اعتبرها النقـّاد من أروع ما كُتب وساهمت في قلب الموازين الإنسانية في أوروبا، ولهذا تـُـرجمت إلى معظم لغات العالم برغم الشخصية الإشكالية لمؤلفها.