“الآباء والبنون” ل إيڤان تورغينييڤ .. رواية عالمية تؤكد على حتمية موت الافكار المادية
“أخبار الدنيا” – دانيا يوسف*
كاتب روسي ألّف روايات وقصصا وأشعارا عكست حياة مختلف فئات المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر ابتداءً بالفلاحين وانتهاءً بالنبلاء. إنه إيـﭭـان تورغينيـﭪ.
ولد تورغينيـﭪ عام ألف وثمانمئة وثمانية عشر لأسرة غنية جنوب موسكو، وتعلم على أيدي مدرسين أوربيين على عادة إقطاعيي روسيا في ذلك الوقت. درس الفلسفة في جامعات موسكو وبطرسبورغ وبرلين. نشر أول عمل أدبي له عام ألف وثمانمئة وتسعة وثلاثين بعنوان ملحمة باراشا، ثم توالى صدور أعماله، ومنها: “عش النبلاء”،”دخان”،”في العشية”،”رودين”،”مذكرات صياد”. لكن العمل الذي نال شهرة واسعة هو رواية “الآباء والبنون” موضوع حلقتنا. توفى إيـﭭـان تورغينيـﭪ عام ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين.
أحداث الرواية:
تدور أحداث “الآباء والبنون” حول طالبين جامعيين هما بازاروف وكيرسانوف يعودان إلى مسقط رأسيهما القروي بعد غياب ثلاثة أعوام. قبل الوصول إلى مقصدهما النهائي يتوقفان فترة لدى أهل صديقهما آركادي حيث يستقبلهما والده، وهو كهل خجول يعيش وضعاً اجتماعياً ضائعا بين حياته العاطفية والمشكلات التي تسببها له مزرعته بعد إلغاء نظام الرق في روسيا، فبات يجد صعوبة في الحصول على يد عاملة رخيصة تعينه في أعماله الزراعية. وإلى جانب هذا الأب يعيش شقيقه الذي كان سبق له أن عمل ضابطاً في الحرس لكنه اضطر الى ترك الخدمة إثر صدمة عاطفية، واتجه ليعيش متقاعداً في الريف.
في هذا المكان وبعد استقبال طيب خُصّ به الشابان، بدأ الصراع يعنف بينهما وبين الكهلين، خصوصاً أن بازاروف جاء محمّلاً بالأفكار المتمردة التي تميّز الشبان الجدد في المدن. والحال أن الصراع لا ينجم عما يقوله الشابان أو يفعلانه فحسب، بل كذلك من أسلوبهما النزق والعدواني في التعبير عن مواقفهما وهو ما يثير حفيظة الكهلين اللذين يبدوان في كل لحظة متمسكين بالقيم والعادات ولا سيما ما يطاول الأخلاق منها. ولاحقاً تؤدي النقاشات المحتدمة الى التصادم والقطيعة. فبازاروف مثلاً يعلن أنه لا يعترف بالفن والأدب وأنه لا يعترف بالتمتع والنظر إلى الطبيعة لأنها ليست مكاناً مقدساً، وإنما هي ورشة للعمل ليس إلاّ، وأن بالعواطف الإنسانية ومنها الحب هي أشياء عديمة القيمة، لأنّها غير مادية.
ولكن مع عودة بازاروف إلى العاصمة، يعيش قصة حب من طرف واحد، وهو أمر يجعله يعيد النظر بمفاهيمه وقيمه المادية، وعندما يفشل في تجربته العاطفية يكون ذلك كفيلاً بتحطيم كل أفكاره ومبادئه وفلسفته. فيغرق في صراع داخلي عنيف، ويفقد أي إحساس بجدوى الحياة.
وفي نهاية الرواية يرجع بازاروف إلى بيت والديه, ويبدأ بالمساهمة في علاج المرضى، ولكنه يجرح إصبعه ويصاب بتسمم الدم, ويموت بهذا التسمم، وكأن المؤلف يرى بهذا الموت عدم إمكانية الأفكار المادية على الاستمرار.
النقد الذي طال الرواية:
عندما انطلقت الثورات الطلابية والشبابية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ظهر إلى الوجود مصطلح “صراع الأجيال”، وذلك في تصوير لما جرى في ذلك الوقت بين الأفكار والقيم الناتجة عن مرحلة الحداثة التي تبنّاها الشباب من جهة وأفكار الأجيال القديمة وأسلوبها المحافظ في العيش والتعبير من جهة أخرى. ومن الواضح أن رواية “الآباء والبنون” قد جسدت حالة صراع الأجيال التي شهدها المجتمع الروسي في منتصف القرن التاسع عشر، مع ملاحظة أن تورغينيـﭪ لم يقف على الحياد في عرضه للقضية، بل رمى سهام نقده الحادة نحو الأجيال الشابة، وهو ما يبدو من خلال وفاة البطل في نهاية الرواية.
والحال أن هذا الجانب في الرواية هو الذي نوقش دائماً، فرفض من بعض النقاد فيما قبله بعضهم الآخر، وهو أمر غطّى أموراً أخرى في تقنيات الرواية التي كانت حافلة بالتجديد والحداثة، من قدرة الكاتب على سبر أغوار النفس لدى شخصياتها الرئيسة، وجعل الأبعاد السيكولوجية جزءاً أساسيا من فن السرد الروائي.
مكانتها العالمية:
عندما طُلب من الشاعر الداغستاني الشهير رسول حمزاتوﭪ أن يعطي تعريفا للأدب الروائي الروسي، أجاب قائلاً: “إنه أدب (الآباء والبنون) لتورغينيـﭪ و”الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي و”الحرب والسلم” لتولستوي”. هكذا تقف رواية تورغينيف “الآباء والبنون” إلى الآن في طليعة هذا الأدب ليس فقط من وجهة نظر حمزاتوف وحسب وإنما هي فعلا واحدة من شواهد الأدب العالمي على قضية الصراع المستمر بين الأجيال في المجتمعات الإنسانية كافة.
————————
* رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”.