“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
من السهل أن تعذب امرأة رجل ما بحبها، لكن ماذا عن امرأة تمكنت من التلاعب بأعظم رجال التاريخ؟ لو سالومي الفتاة المثقفة الغامضة التي صفعت الذكورية الغربية في عز مجدها. من هي لو سالومي إذا؟ وكيف استطاعت إيقاع مثقفين عصرها وتحطيمهم دفعة واحدة؟ وهل كانت سالومي مخطئة أم أن التاريخ ظلمها؟
نيتشه، فرويد، فاجنر، بول ري.. هل تريدون المزيد؟! هل ما تزال قائمتكم تتسع للمزيد؟! حسنا عزيزي القارئ هذه ليست قائمة لأهم الشخصيات الثقافية التي أثرت في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصحاب تلك الأسماء العظيمة كانوا أهم الضحايا الذين وقعوا في حب بطلة مقالتنا اليوم… لو سالومي المرأة الأوروبية المثقفة العجيبة، التي استطاعت خلال حياتها من إيقاع فيلسوف وكاتب وعالم نفس وموسيقي، وليس مجرد فيلسوف وكاتب وعالم نفس وموسيقي بل الأفضل في مجالاتهم وزمنهم على الإطلاق. هل تظنون أن الأمر انتهى إلى هذا الحد… عليكم توقع المزيد فسالومي لم يكن لديها حدود، الشاعر الأكثر رقة على الإطلاق من شعراء عصره، الألماني رينيه ماريا ريلكه الشاعر البوهيمي الرقيق الذي اشتهر بشعره الروحاني الوجداني كان اسما أخر ضمن قائمة ضحايا لو سالومي. لربما أثاركم الأمر ورغبتم معرفة من هي لو سالومي، لنتطرق للأمر مباشرة إذا.
من هي لو سالومي؟
لو سالومي هي كاتبة ومحللة نفسية ألمانية ذات أصول روسية ولدت عام 1861 وتوفت في العالم 1937، كانت امرأة من طراز فريد وواحدة من القليلات اللاتي تميزن من أبناء جنسها في ذلك العهد، كيف اشتهرت صديقتنا إذا؟ بمغامرتها حول الرجال. رسم ملامح الشخصية السالومية أمر في غاية التعقيد من حيث الوصف، نحن نتحدث عن امرأة جامحة ومغامرة تحب الترحال والسفر الكثير، ترغب بالجميع وليس أحد، تكون صداقات مع الجميع لكنها تتنقل مثل العصفور الطنان من جدول إلى جدول لتنهل من كل نهر شربة ثم تحلق بعيدا في انتظار تجربتها القادمة التي لا تعرف عنها الكثير سوى أنها تريد تجربتها. كان لسالومي طلة مميزة وشخصية مثار للإعجاب ناهينا عن تنوع مشاربها الثقافية وحيويتها التي تنقلها لكل من يلتقي بها، فسالومي كانت شخصية متقدة الذكاء جامحة الطموح والمعرفة.
حظيت سالومي بنتاج وإرث ثقافي كبير، نتيجة لعملها بالكتابة سواء الثقافية أو النقدية الأدبية كذلك، بجانب معرفتها المطلعة بعلم النفس الذي امتهنته لاحقا لتصبح محللة نفسية على يد عالم النفس الأشهر على الإطلاق سيغموند فرويد والذي وقع في حبها هو الأخر. لكن جل التركيز الذي نالته سالومي تاريخيا كان من خلال صداقاتها الكثيرة مع أشهر مثقفي عصرها وعلاقاتها المتعددة مع أعلام التاريخ الثقافي في العصر الذهبي للثقافة الأوروبية.
وبجانب كل الصفات الإيجابية في سالومي ودورها الذي يعتبره البعض أنه مثال صارخ على العبقرية النسوية الخالصة، فقد كانت شخصية نرجسية بامتياز ويمكننا أن نضيف لها صفة السادية أيضا، كيف كان ذلك؟! لنتابع قليلا للأسفل لنرى ماذا فعلت مع أشهر الرجال في أوروبا في ذلك الوقت؟
لو سالومي ونيتشه
هناك صورة شهيرة للغاية تجمع نيتشه بسالومي بناء على رغبته الخالصة، طلب فيها -المفكر والفيلسوف الذي شكلت فلسفته الوعي الأوروبي وكثيرا من فلسفات القرن الماضي- شيئا في غاية الغرابة، أحضر صاحبنا عربة خشبية تجر بواسطة الحمير ووضع نفسه في المكان الذي يربط فيه الحمار وطلب من سالومي الجلوس مكان الحوذي وإشهار السوط كنوع من رثاء النفس، الصورة الشهيرة ” سائق العربة القاسي” كانت تحوي أيضا الفيلسوف والكاتب الألماني الكبير بول ري والذي وقع في حب سالومي أيضا وطلب الزواج منها ورفضته بالطبع كما رفضت نيتشه.
لم تكن تجربة نيتشه بالهينة مع لو سالومي ، فنيتشه عانى الكثير في معظم فترات حياته، في بداياته ولد نيتشه في أسرة بروتستانتية متدينة لأب قس توفى في سن مبكر من عمر نيتشه، بعد ذلك خلال شبابه وبدايات كهولته كان مظهر وجهه الصارم وشكل عينيه المخيفة سببا للمشاكل خصوصا نيتشه مع النساء، وكما هو المعروف فان نيتشه أصابه الجنون نتيجة لتفشي مرض الزهري الوراثي لديه ووصوله لخلايا الإدراك بالمخ، مما جعل نهاية حياته مأسوية كذلك، عانى خلال ما يقرب من 10 سنوات من الوحدة والجنون حتى توفى في الأخير. قابل نيتشه سالومي في أواخر ثلاثينيات حياته بينما كانت هي في بدايات العشرينات، وجد نيتشه في سالومي كل ما تمنى أن يجده في امرأة يوما؛ كانت سالومي بمثابة الخلاص من رتابة الحياة اليومية وألمه الوحدوي، كان نيتشه محبا بكل جوارحه، كانت يختلط لديه الحب بالقوة بالثورة على كل ما هو اعتيادي. كتب لها صديقنا الكلمات التالية:
“اجعلي شعلتك يا روحي تتقد، دعيني في لهيب الصراع أجد جواباً لجوهرك الغامض، دعيني أفكر وأحيا ألفاً من السنوات وأرمي فيها كل شيء، كل ما لديك، كله. وإن لم يكن لديك من سعادة باقية تقدمينها لي فلن يكون في وسعك أن تزيدي من آلامي”.
كان صاحبنا مخطئا في ذلك تماما، ولكنه كتب عنها أيضا مقولته المشهورة “لا أريد أن أكون وحيدا، وأرجو أن أتعلم مرة أخرى كيف أصبح كائنا إنسانيا. أجل ففي هذا المجال يجب أن أتعلم شيئا” لم تكن سالومي تلك المرأة التي ظن نيتشه أنها ملاذه، تقدم نيتشه لزواج سالومي 3 مرات كما يقال ولكنها في كل مرة كانت ترفضه وهكذا تحطم الحلم الوردي الذي رسمه نيتشه واختفى الأمل الذي تخيل انه سينهي وحدته.
هناك بعض اللغط حول قصة لو سالومي ونيتشه، يربط البعض عزلة نيتشه وحادثة الجنون في نهاية حياته بحبه لسالومي، ولكن هذا مثار للجدل وهناك بعض وجهات النظر تدحضه، فنيتشه فقد عقله بعد التقائه بسالومي بكثير من السنوات وكان سبب الجنون مرضي ووراثي خالص كما أوضحنا، قد لا تكون هي من ساقته للجنون لكن بالتأكيد هي من أسهمت في نظرته العنصرية المشهورة عن النساء، فنيتشه من قال على لسان أحد شخصيات كتابه الأعظم هكذا تكلم زرادشت “إذا ذهبت إلى المرأة فلا تنسى السوط” وقال أيضا “يجب أن يهيأ الرجال للحرب ويجب أن تهيأ النساء للترفيه عن المحاربين” بالطبع تلك النظرة الغريبة من نيتشه لا تقلل من عظمته أو ما أسهمت به فلسفته في تطور الوعي والحضارة الإنسانية، ولكن هذا كان رأيه على أي حال.
لو سالومي وريلكه
بعد وقوع نيتشه في شراك لو سالومي لم يكن من الصعب أن نقتنع بوقوع ريلكه في الأمر ذلك، ذلك الشاعر الرومانسي الرقيق تعرف على سالومي في سن صغير وكانت تكبره هي بما يفوق أربعة عشر عام؛ عكس ما وقع مع نيتشه. وكانت سالومي متزوجة حينها من أستاذ جامعي يسمى فريدريك كارل اندرياس، وكان زواجهما غير مفهوم وغريب، فبرغم غياب مظاهر الحب والتقارب ألا أنهما كانوا متوافقين للغاية ومتفقين في رؤيتهم الخاصة لعيش الحياة، كان زوجها يعلم بعلاقاتها المتعددة وحين سُئل عن ذلك أجاب ببساطة أن هناك رجالا خلقوا ليكونوا أزواج بالفطرة مثله وهؤلاء الرجال يعيشون بسعادة كونهم في حياة نساء عظيمات مثل سالومي حتى لو كانت تقضي الكثير من وقتها بحثا عن الحب في الخارج، فالنساء العظيمات من أمثالها يجب أن يحظين بزوج يتكئن عليه داخل المنزل وعاشق مجنون يلهمهم في الخارج.
أحد تلك النزوات المهمة كان ريلكه، كان صغيرا وقتها ولم يكن يحظى بالشهرة التي نالها لاحقا، قالت سالومي عن ريلكه “لقد دخل ريلكه حياتي وجلب الحب معه بكل هدوء وطمأنينة … زارني دون ندية أو إحساس بالذنب زارني كما لو أننا نكتشف شيئا مباركا يكتمل بفضله العالم”. نلحظ الكلمات المقتضبة والمتلكئة بعض الشيء التي عبرت فيها سالومي عن حبها لريلكه، أما صديقنا الهائم فقد أنغمس فيها بكليته وغاص فيها ملقيا عزلته وروحه الواهنة لديها، ذلك الرجل شديد الحساسية ومرهف الشعور وجد في سالومي ضالته أيضا مثلما فعل نيتشه ولكن بتجرد مادي خالص وببكارة روحية مخلصة. أشتهر ريلكه بخطابته الشاعرية الرقيقة التي قدرت بالآلاف لأصدقائه على مدار حياته، كتب ريلكه لسالومي ذات مرة “يوما ما بعد أن يقضي الزمان عمله سوف تعرفين ما كنتي تعنيه لي حقا، لا أجد لدي شيئا يمكنني أن أرد به ما فعلتيه لأجلي، كنتي لي بمثابة نبع جبلي أتى لظمآن، لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء والشمس إلا فيك.. من خلالك”
لو سالومي وفرويد
علاقتها التالية وجدت محطة أكثر اتزانا وعقلانية وأيضا ملائمة لذلك الوقت من حياتها عن السابق، سيغموند فرويد المحلل النفسي البارع ومؤسس الكثير من النظريات الرائدة في التحليل النفسي، الرجل الذي غيّر مسار تشريح علم النفس للأبد. سحر فرويد كعادة كل عظيم يقع في طريق سالومي بها وبثقافتها وحماسها منقطع النظير، لم تعاني سالومي الكثير لتحجز مقعدا لها في حلقة النقاش التي كان يقيمها فرويد بشكل دوري، لتصبح أول امرأة تقتحم تلك الحلقة وترغم فرويد على الإعجاب بها. في تلك المرحلة كانت لو سالومي في خمسينيات عمرها وكانت أكثر استقرارا ووعيا عن ذي قبل ويقال أنها حتى في هذا السن كانت أكثر جمالا، قررت تجنب الانهماك في الكتابة الأدبية والنقد والتفرغ تماما للتحليل النفسي ودراسته، يقال إن سالومي بمجرد تعارفها على فرويد طاردته في كل مكان يذهب إليه داخل أوروبا لتحضر دروسه وتتعلم منه، حينما وصلت إلى فيينا في 1912 كان صراع فرويد الفكري مع الطبيب النفسي النمساوي الفريد أدلر في أوجه؛ وهو صراع شهير بين كلا من فرويد وأدلر وعالم النفس الكبير كارل يونج. ومنذ اللحظة الأولى ساندت سالومي فرويد ودعمته بشكل كامل، مما أعطى سالومي بطاقة المرور لقلب فرويد. علاقتها مع فرويد لم تكن تشبه سابقاتها كلاهما كانا كبيرين في العمر وحنكة فرويد منعته من الهيام بها بطريقة يمكن أن تضره أو حتى الانجذاب لها بل كان أشبه بإعجاب من نوع خاص قد يتضمن المودة أو الاهتمام ولكن دون تعلق وجنون، بالطبع لم يكتب لعلاقة فرويد وسالومي التطور أو الاستمرار ولكنهما حافظا على علاقتهما متزنة وودودة حتى بعد ابتعاد كلا منهم.
ماذا تركت لو سالومي ؟
شخصية مثلها كانت مثار اهتمام أعظم مفكري عصرها لابد أن تمتلك الكثير، انهمكت لو سالومي في بداية حياتها الفكرية بالأدب، فبعد وصولها إلى أوروبا مع عائلتها المهاجرة من روسيا تعرفت سالومي على عالم جديد وأفاق إبداعية لم تعهدها من قبل.
وبجانب ممارستها للأدب خاضت كل مغامراتها الغرامية المعروفة، كان لسالومي نتاج أدبي تمثل فيما يزيد على 20 كتاب مطبوع، متنوع بين الأدب والنقد والتحليل النفسي. من أهم الكتب التي اهتم لها دارسي سيرتها الشخصية تلك الكتب التي تمثلت في رصدها لسير حياة كل عشاقها، فنيتشه وفرويد وريلكه كلا منهم حظا بكتاب تحكي فيه سالومي عنهم. التحول الذي قادها في النهاية لدراسة التحليل النفسي كان ُيرى من قبل كثيرين بأنه كان غير موفق، فسالومي تؤمن بنفسها تماما وبقدراتها الإبداعية في الكتابة في علم النفس والأدب والفلسفة و كذلك تثق في قدراتها الأكاديمية، لكن كثيرين رأوا أن تقربها من فرويد ومحاولة دراسة التحليل النفسي ليس كافيا لأن تصبح مرجعا في التحليل النفسي، فحين كتبت سالومي كتابا عن فرويد وعلاقته بالتحليل النفسي ظنت أنه سيصبح مرجعا أساسيا لأي شخص يتحدث عن التحليل النفسي، لكن أحدا من أساتذة عصرها لم يهتم بتاتا بما كتبت، وهذا ما أثار غضبها عند نقطة ما.
هل كانت لو سالومي مذنبة؟
تحتل لو سالومي مرتبة كبيرة جدا بين أكثر الشخصيات المحيرة في التاريخ الإنساني، لو سالومي التي نالت رصيدا كبيرا من التشويه لها ولسيرتها، لكن هل كان حقا نيتشه يستحق؟ نيتشه ونزعته العدمية وغياهب روحه المظلمة قد تكون هو ما دفعها بعيدا، يمكننا أن نفترض افتراضا من السهل أن يكون حقيقيا وهو أن ريلكه كان محطما وضعيفا للحد الذي لا يمكن تحمله وكذلك يمكننا القياس على الباقين. قد تكون سالومي ظالمة أو مظلومة في النهاية فالتاريخ والتاريخ الأدبي خاصة يقدم لنا صورة تلك المرأة محاطة بالعديد من الحكايات بعضها حقيقي وبعضها خيالات أو ادعاء قائم على أهواء شخصية من محض خيال قائله.
فالطعنات التي غرزتها لو سالومي في صدور محبيها قد تكون رصاصة الرحمة التي تأخرت كثيرا لكل منهم لرأفتها بحالهم، وقد تكون عملا أنانيا متجردا من كل أنواع الإنسانية. في الأخير لا يسعنا إلا أن نقول إن لو سالومي كانت امرأة عظيمة وعبقرية واستطاعت أن تكون صرخة نسوية لاذعة في العالم الذكوري الذي شكل الحضارة وساقها منفردا لقرون عدة. وفي النهاية وكما عودتنا العلوم الإنسانية فلا يوجد شيء محسوم أو نهائي في هذا العالم.
انتهت حياة لو سالومي في العام 1937 نتيجة للفشل الكلوي بعد أن تعدت 70 عاما قدمت خلالهم مثال للمرأة المتحررة التي تقدس الحرية كقيمة تساوي الحياة، امرأة غامرت في مجتمعات لم تكن تعترف بوجود روح لدى المرأة لأوقات كثيرة، امرأة قامت بكل شيء أرادته في الحياة أو حاولت على الأقل وفي طريقها أخذت الكثيرين معها دون اعتبار، في النهاية فقد تكون لو سالومي شيطان لا يعبر إلا عن الشر أو مجرد امرأة أرادت أن تعيش الحياة كما تريد لأنها استوعبت مبكرا أنها ستعيش حياة واحدة.