أوكرانيا ؛ الرصاصة في الوجه ..!
بقلم العميد مُنذِر الايوبي*
ارتفاع غير مفاجيء في منسوب التوتر تزامن مع تصاعد الاشتباكات، في انتهاك منهجي لنظام وقف اطلاق النار الذي ادى في الاسبوعين الاخيرين الى تحييد وجرح عشرات الجنود ألأوكران، دفع الرئيس الاوكراني “فولودومير. زيلينسكي” يوم الخميس الماضي للتوجه الى خط الجبهة شرق البلاد وتفقده ميدانيآ قوات الجيش ومواقع التصعيد الساخنة مع المتمردين الانفصاليين الموالين لروسيا.
تزامنآ، كانت الاوامر قد صدرت لقائد اسطول البحر الاسود الادميرال Igor Osipov برفع جهوزية اسطوله العملياتية والتكتيكة، دافعآ بمجموعة ضاربة من سفن الاسطول في مقدمتها الطراد الصاروخي Grayvoron “انزل للمياه بداية 2021، مزود ببطاريات صواريخ Corvette و Caliber” حيث يرفرف على ساريته علم القديس اندراوس البحري رَمزُ مباركته؛ للتحرك في المياه الدولية مقابل الشواطيء الاوكرانية الممتدة بطول 2800 km تقريبآ.
تاليآ؛ تسارعت التطورات بعد دخول الولايات المتحدة الاميركية على خط الصراع عبر جسر جوي بين القاعدة الجوية-9 جنوبي كاليفورنيا والقاعدة الجوية الاوكرانية Vinnytsia حيث تهبط بتواصل نشط طائرات الشحن العملاقة Boeing-C 17 GM محملة بمنظومات صواريخ Javelin ارض-جو و Taw المضادة للدبابات اضافة الى عربات مدرعة خفيفة ومدافع الهاوتزر ذاتية الحركة.
إستطرادآ؛ ابلغت القيادة العسكرية الاميركية في اوروبا EUCOM تركيا مسبقآ عن ارسال سفينتين حربيتين الى البحر الاسود، وستعبران المضيقين التركيين البوسفور والدردنيل بتاريخ 15 الجاري، حيث سترابط في المياه الدولية للبحر الاسود لمدة 21 يومآ وذلك وفقآ لاتفاقية Montreux. بالمقابل، عززت القوات الروسية من تواجدها في شبه جزيرة القرم واقاليم حوض “الدونباس” Donbass شرقي اوكرانيا “جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك”، حيث نقلت وحدات اضافية الى مناطق التوتر قدر عديدها ب 30 كتيبة تكتية ما يوازي 25000 مقاتل، كما زادت عديد الخبراء العسكريين الروس لدى القوات الانفصالية الموالية.
من جهة اخرى؛ بدت التحركات العسكرية والاشتباكات المسلحة لكلا وبين الجانبين الاوكراني والمتطوعين الموالين لروسيا على ما تصفهم الاخيرة، اشارة مقلقة لما يخطط له؛ اضافة الى انه كان لافتآ في التوقيت مع حجم الانتشار العسكري ونوعيته بالتوازي مع سرعة ارتفاع منسوب التوتر ودرجة الاستنفار.! ففي حين اتهمت “كييف” Kyiv روسيا بالتحضير لغزو اوكرانيا او الاجزاء المتاخمة للاقليم الانفصالي، مستغلة المناخ التصادمي كفرصة مناسبة لطرح انضمامها الى حلف شمال الاطلسي، تنفي موسكو ان يكون هذا التحشيد العسكري يحمل نوايا عدائية او هجومية، فهي تعتبر ان التحركات الحالية لقواتها تجري ضمن بقعة انتشار حقول التدريب المتاخمة للحدود المشتركة، كما تأتي التزامآ بجدول المناورات السنوية مع اختتام مرحلة التدريبات الشتوية واختبارات الاستعداد القتالي وفقآ لبرامج التدريب الموضوعة سابقآ. لكنها بالمنطق العسكري والسياسي فهي تشكل ايضآ رسالة تحذير واضحة لعدم انجراف اوكرانيا في تخطي الخطوط الحمراء نحو حرب مفتوحة مع اقليم Donbass.
في سياق متصل؛ من الواضح ان الكرملين يحاذر ويحذر من انضمام اوكرانيا لحلف ال NATO او مشاركة الحلف بنشر قواته على اراضيها، اذ ان قرار التدخل العسكري للدفاع ودعم مقاتلي الاقليم الانفصالي الذي يقطنه غالبية روسية امر متخذ. لكن الضجيج الديبلوماسي بدأ يطغى على اصوات جنازير المدرعات الروسية التي يسمع صداها في بروكسل “مقر الاتحاد الاوروبي وقيادة حلف الناتو”، ما يعني الجنوح نحو التهدئة وان بلهجة مرتفعة. اذ حذر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، من عواقب تعرض اوكرانيا لعدوان روسي، معبرا عن مخاوف واشنطن حيال التعزيزات العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا قائلآ إن “هناك حشودا روسية على الحدود أكثر من أي وقت منذ 2014، خلال الاجتياح الروسي الأول وانه في حال تحركت روسيا بشكل متهور أو عدواني، ستكون هناك تكاليف، ستكون هناك عواقب”.
المعركة اذن مفصلية بالنسبة لموسكو، والرئيس الروسي بوتين مقتنع ان حلف الناتو لن يلعب بالنار التي تحاول اوكرانيا اشعالها وجره او الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية. علمآ ان خطوط الاتصال مفتوحة على مدار الساعة بين رئيس هيئة الاركان الاميركي الجنرال Mark Milley ونظيره الروسي الجنرال Valéry Gerasinov للتنسيق وتلافي شبح حرب قد تندلع خطأ.
إستطرادآ؛ الخيار الديبلوماسي لنمط الحوار الهاديء بدأ يحتل الاولوية، اذ تَظَهَر بزيارة سريعة ومفاجئة امس السبت للرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي الى تركيا، حيث اجرى محادثات مطولة مع الرئيس رجب طيب اردوغان استمرت اكثر من ثلاث ساعات تناولت التطورات المقلقة في منطقة شرق اوكرانيا. اعلن الرئيس أردوغان بعد انتهائها ، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع زيلينسكي، “إنّه يأمل أن يتم حل الصراع سلميّاً من خلال الحوار على أساس الأعراف الديبلوماسية، بما يتفق مع القوانين الدولية ووحدة أراضي أوكرانيا”.
على الصعيد الجيواستراتيجي، وبصرف النظر عن الواقع الديموغرافي (الاغلبية الروسية من سكان الدونباس) والجغرافي- الامني (تبعد موسكو عن الحدود الاوكرانية 480 km) الى جملة عوامل اخرى متنوعة لا مجال لتعدادها.. قد يعتقد الرئيس الاوكراني بعد وصول الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض واستراتيجيته الفرط-عدائية لروسيا، ان الصراع حول الاقليم الانفصالي مع احتمالية التدخل الغربي يمر في لحظة يمكن التقاطها عبر امكانية فرص مقايضة روسيا للورقة الاوكرانية باخرى تحتل اولوية لديها على المسرح الدولي المزدحم بالنقاط والملفات الساخنة “سوريا- ليبيا- العراق- اليمن- مصر- فنزويلا- انابيب الغاز الروسي نحو اوروبا.. الخ”. وهذه قِراءَة خاطئة ومغامرة خاسرة في لعبة الامم.! اذ ان الرئيس بوتين وطد استراتيجية دولته كقطب ثانٍ في حكم الكوكب، ويعتبر اوكرانيا في موقع “حديقة خلفية” لروسيا القيصرية ثم السوفياتية وحاليا الاتحادية، وهي ايضآ “جبهة أمامية” خط تماس في صراع جيوسياسي بمواجهة اقوياء (اميركا، الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو)، وليست حتمآ دولة صالحة او قادرة لتلعب ادوارآ اقليمية على المسرح الاوروبي او الدولي. اما اللهجة المتضامنة و العبارات الداعمة سواء التي ادلت بها المتحدثة باسم البيت الابيض Jen Psaki او تلك التي سمعها كل من وزيري الدفاع والخارجية الاوكرانيين وبالتالي رئيسهما Volodymyr Zelensky من نظيريهما الاميركيين فلا تسمح الظروف الدولية و القدرات العسكرية التناسبية بين الطرفين الاساسيين “اميركا-روسيا” كذلك الازمات المتعددة “الصين- ايران الخ” اضافة الى جائحة COVID 19 بأن تقرش عمليآ في الميدان العسكري والاستراتيجي بمواجهة روسيا الاتحادية.
خِتامَآ ، وعلى نفس المستوى من الحوار الديبلوماسي الحاد والغير مباشر اعلن Dmitry Kozak نائب رئيس الادارة في الرئاسة الروسية إن “القوات الروسية يمكن أن تتدخل للدفاع عن مواطنيها، اذ يعتمد كل شيء على احتدام الصراع”. محذرآ من أن أي تصعيد يمكن أن يمثل “بداية النهاية لاوكرانيا، ليست رصاصة في الساق، لكن في الوجه”.
* كاتب و باحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية
* بيروت في 11.04.2021.