“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
“اننا نحاول اليوم تحرير الهند وهو عمل عظيم. لكن الأعظم من هذا هو خدمة الانسانية نفسها، لأننا نشعر أن نضالنا جزء من نضال الانسان الأكبر لوضع حدّ للظلم والشقاء.”
برغم أن المهاتما غاندي يعتبر الأب الروحي للأمة الهندية، إلا أنه يعتبر الأب الفعلي للدولة الهندية الحديثة. هو الذي قاد النضال السياسي لتحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وهو الذي تولى الجوانب الإدارية والتنظيمية التي أدت إلى بناء الدولة الهندية المستقلة. انه جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها عن بريطانيا.
الولادة والنشأة:
ولد جواهر لال نهرو ،الذي يعني اسمه باللغة الهندية الجوهرة الحمراء عام ألف وثماني مئة وتسعة وثمانين في مدينة “الله آباد”. كان والده المحامي موتيلال نهرو ثريا إذ كان عمله مزدهرا ما مكّن عائلته من العيش الرغيد والمرفّه. وفي عام ألف وتسع مئة وخمسة أرسل موتيلال ولده جواهر إلى بريطانيا للدراسة، وهناك حصل على اجازة في العلوم الطبيعية واخرى في الحقوق من جامعة كامبردج، وقد انبهر نهرو خلال إقامته هناك بالثقافة الغربية، ونبذ ثقافته الهندية وديانته الهندوسية.
بعد تخرجه عاد نهرو الى الهند وبدأ العمل في الإدارات الحكومية التابعة لسلطة الاستعمار البريطاني للهند، ولكنه في الوقت نفسه كان مفعماً بالأفكار الوطنية، فمال للعمل السياسي. في تلك الأثناء، كانت الهند تعيش مرحلة من تنامي المشاعر الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني للهند. وفي هذا الوقت كان اسم الزعيم الهندي غاندي قد بدأ يبرز حتى قبل عودته إلى الهند من خلال ما حققه من إنجازات خلال نضاله وإقامته في جنوب أفريقيا. وأفكار غاندي راحت تجذب الجيل السياسي الشاب في الهند. ومن هؤلاء جواهر لال نهرو.
نهرو تلميذ غاندي:
عاد غاندي إلى الهند عام ألف وتسع مئة وخمسة عشر، ومنذ ذلك الحين أصبح نهرو من تلامذته، وشكل لقاؤه إيّاه صدمة إيجابية أعادته إلى جذوره الهندية، فصار يواظب على أداء اليوغا والتأمل وقراءة الكتب الهندوسية المقدسة، وترك الملابس الأوروبية وارتدى الملابس الهندية وأقنع والده وبقية عائلته بذلك.
في عام 1919 ألف وتسع مئة وتسعة عشر ، ارتكب جنود الاحتلال البريطاني في الهند “مذبحة أمريتسار” وقتلوا مئات المتظاهرين السيخ خلال تجمع للاحتجاج على اضطهاد الاحتلال البريطاني للهنود. وعيّن موتيلال نهرو ليرأس تحقيقاً عاماً في أحداث المذبحة فأرسل ابنه جواهر لال إلى مدينة أمريتسار ليتقصى الحقائق، وكان لهذه المهمة أثر بالغ فيه وتعرّف عن قرب إلى الأساليب الوحشية التي مارسها البريطانيون لقمع الهنود.
شارك جواهر لال نهرو بفاعلية في تأسيس “حركة اللاتعاون” وهي الحركة التي دعت الهنود الى عدم التعاون مع المحتل البريطاني ومقاطعته. وفي عام ألف وتسع مئة وعشرين ، ترك نهرو ووالده مهنة المحاماة بما تدّره من أرباح وباعا ممتلكاتهما وآثرا العيش البسيط والمتقشف على طريقة غاندي وتفرغا للعمل في الحركة الوطنية.
نشاطه السياسي:
نشط نهرو في حركة استقلال الهند عن الحكم البريطاني وتعرض للاعتقال من قبل سلطات الاحتلال البريطانية ثماني مرات ما بين عامي ألف وتسع مئة وعشرين وألف وتسع مئة وثمانية وعشرين وكذلك ما بين ألف وتسع مئة واثنين وأربعين وألف وتسع مئة وستة وأربعين، ولكنه أصبح فيما بعد زعيماً لحزب المؤتمر الهندي أكبر الأحزاب الهندية الداعية للاستقلال وأهمها. وقد أفرج عنه ليتسنّى له حضور مؤتمر لندن الذي أقر مبدأ استقلال الهند، وقد اختير ليكون أول رئيس وزراء للهند المستقلة في الخامس عشر من آب عام ألف وتسع مئة وسبعة وأربعين واستمر في هذا المنصب حتى وفاته.
لال نهرو قائد الهند:
كانت التركة التي ورثتها الهند بعد قرون من الاستعمار البريطاني ثقيلة جداً. فقد كان الفقر والجهل والتخلف وشبح المجاعة والنظام الطبقي يتغلغل عميقاً في جسد الهند ومؤسساتها، فعمل نهرو بجد من لحلّ هذه المشاكل فأولى التعليم اهتمامه ونجح في إقرار مشروع التعليم الإلزامي لأطفال الهند كافة. كما حاول تأسيس نهضة علمية وأكاديمية عبر إنشاء العديد من المؤسسات الحكومية في هذا المجال كمؤسسة عموم الهند الطبية، والمعهد الهندي للتكنولوجيا.
وفي مجال التنمية المستدامة للهند سعى نهرو إلى جعل الهند دولة نووية لحل مشكلة الطاقة في البلاد. وعمل على إيصال الكهرباء إلى العديد من مناطق الهند المحرومة، كما شجع على الصناعات الثقيلة في المراكز المدنية الكبرى، والصناعات المنزلية الصغيرة في الريف الهندي. وكان يؤمن أن الهند بما تملكه من إمكانات وموارد طبيعية وديمغرافية تستطيع أن تكون القوّة الاقتصادية الرابعة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي سابقاً والصين. وتدين الهند بالكثير من نهضتها الاقتصادية والثقافية التي تعيشها اليوم إلى أيام حكم جواهر لال نهرو وعقليته وذهنيته العلمية المتفتحة والمتمدنة.
تأثيره في السياسة الدولية:
لم يكن جواهر لال نهرو زعيما للهند وحسب، إنما كان زعيما عالميا ترك بصماته في السياسة الدولية. فإلى جانب تأكيد حضور الهند ومكانتها في العالم، برز نهرو واحدا من كبار قادة العالم الثالث الفاعلين في حركته من أجل الاستقلال والحياد الايجابي وعدم الانحياز. اشتهر نهرو بخطابه السياسي الرافض للامبريالية والداعي الى محاربة الاستعمار، والى عدم الانضمام الى أي من المعسكرين الشرقي او الغربي، الأمر الذي ولّد فكرة تكوين مجموعة “دول عدم الانحياز”. واعتبر نهرو أن هذه المجموعة الدولية يمكن أن تقيم التوازن الدولي وتسهم في حفظ السلام العالمي. ومن أجل ذلك كان من أوائل الداعين الى عقد مؤتمر باندونغ في نيسان عام ألف وتسع مئة وخمسة وخمسين وهو أول مؤتمر دولي يعقد باقتراح قدّمته الدول المستقلة حديثا وشاركت فيه.
كان المؤتمر منطلقا لحركة عدم الانحياز بحضور عدد كبير من أبرز زعماء العالم الثالث كالرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو والرئيس المصري جمال عبد الناصر. وقد ولّد هذا المؤتمر موجة جديدة من نضال الشعوب في سبيل الاستقلال، وأججّ حركات التحرر الوطني، وعجّل في انهيار المنظومة الاستعمارية في العالم.
نهرو وقضايا العرب:
كان نهرو صديقاً للعرب، وقف إلى جانبهم خلال صراعهم مع الكيان الصهيوني ،ورفض إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وكان من أكبر مناصري القضية الفلسطينية في العالم حيث اعتبر طرد الشعب الفلسطيني من أرضه وإعطاءها للصهاينة جريمة أخلاقية كبرى. وكان من الدعاة الى استقلال الجزائر وتحريرها من الاستعمار الفرنسي كما كان يطالب برحيل بريطانيا عن الخليج العربي.
وفاته:
توفي جواهر لال نهرو في السابع والعشرين من أيار عام ألف وتسع مئة وأربعة وستين بعد حياة حافلة بالنضال السياسي والاجتماعي، وهو اليوم يعتبر مؤسس نهضة الهند الحديثة.
———————————-
رئيسة القسم الثقافي في “اخبار الدنيا”.