“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
لم يكن كغيره من الشباب, فقد وضع قضية بلاده نصب عينيه، واستطاع أن ينهي احتلالاً دام أكثر من ثمانين عاما، فأصبح التخطيط لموته هدفاً شاركت فيه العديد من الدول الغربية. إنّه الزعيم الأفريقي ﭘـاتريس لومومبا.
ولد ﭘـاتريس لومومبا عام 1925 بمقاطعة الكونغو الشرقية، التي كانت خاضعة للاستعمار البلجيكي. نال نصيباً من التعليم بحكم انتمائه القبلي المقرّب من المستعمر، وعمل موظفاً للبريد. خلال هذا عاين لومومبا عن قرب ما كان يعانيه الأفارقة من عنصرية الأوروبيين واستغلالهم ثروات البلاد، وفي الوقت نفسه بدأ بدراسة القانون والاقتصاد بنظام المراسلة، ما صقل ثقافته، وكوّن مشاعره الوطنية. واستثمر طبيعة عمله وتنقله في أرجاء الكونغو، فعقد علاقات وثيقة مع القبائل المختلفة، وعمل على الجمع بين القوى الكنغولية الوطنية. ولكن سلطات الاستعمار البلجيكي تنبهت لصعود نجمه، فلفقت له تهمة سرقة، وزجّ به في السجن.
الوضع السياسي الذي تلا الحرب العالمية الثانية أنتج مناخاً سياسياً جديداً، استفادت منه الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال عن المستعمر الأوروبي. وقد استفاد لومومبا من هذا، فبادر عام 1958 إلى تأسيس الحركة الوطنية الكونغولية (Le Mouvenent National Congolais) المطالبة باستقلال الكونغو، وإنشاء حكومة مركزية قوية، وتدعيم الوحدة الوطنية، وفق مبادئ التنمية الإقتصادية المستندة إلى الإشتراكية الداعية إلى التوزيع العادل للدخل الفردي. وقد أزعجت هذه المبادئ سلطات الاستعمار البلجيكي وإدارات كبريات الشركات الأوربية التي تحتكر ثروات الكونغو المتعددة.
في السنة ذاتها، قام الرئيس الفرنسي ديغول بزيارة تاريخية لعدد من الدول الأفريقية الخاضعة للاستعمار، ومنها الكونغو، حيث أيّد حق المستعمرات الأفريقية في نيل استقلالها إن رغبت بذلك. وقد قدم ديغول هذا الطرح كمناورة سياسية تهدف إلى منح هذه الدول استقلالها شرط استلحاقها اقتصادياً بالدول الاستعمارية.
وعلى الرغم من فرض سلطات الاستعمار البلجيكي ستاراً حديدياً لمنع الأفكار التحررية من الوصول إلى الشعب الكونغولي، إلاّ أنها فشلت في ذلك. فتأسس عدد من الأحزاب التحررية، وهو ما عجل في مسيرة الإستقلال وبزوغ حراك حياة سياسية وطنية، وكان من أبرز هذه الأحزاب الحركة الوطنية الكونغولية بزعامة لومومبا.
مع بداية عام 1959، تصاعدت الاحتجاجات المطالبة باستقلال الكونغو، واجتاحت البلاد أعمال عنف راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى، فاعتقلت سلطات الاستعمار لومومبا بتهمة تدبير هذه المظاهرات. وتواصلت الاحتجاجات، وغدت الكونغو على أبواب حرب فعلية، فقررت السلطات البلجيكية عقد مؤتمر الطاولة المستديرة فى بروكسل في كانون الثاني/يناير عام 1960، بمشاركة بلجيكية وكونغولية، فأفرج عن لومومبا ليشارك في المؤتمر.
أقر مؤتمر بروكسل نيل الكونغو استقلالها، ولكن بعد إجراء انتخابات نيابية فيها. وقد جرت هذه الانتخابات في أيار/ مايو عام1960، وبرغم محاولة سلطات الاستعمار تزويرها ودعم مرشحين موالين لها، فإن كتلة لومومبا حققت نجاحاً مهماً. وتشكلت أول حكومة كونغولية مستقلة تحت اسم جمهورية الكونغو، تولّى فيها لومومبا رئاسة الوزراء، ووزارة الدفاع وهو لم يجاوز الخامسة والثلاثين من عمره.
سعى لومومبا إلى تكريس الانتماء الوطني كقيمة أعلى من الولاء القبلي، وعمل لإرساء حكومة مركزية، وإحلال الكونغوليين الأفارقة تدريجياً فى المناصب الأساسية، حيث كان المستعمر الأوروبي متغلغلاً في مختلف المؤسسات لقلة الكفاءات في المواطنين الأفارقة بسبب ما كان يتبعه المستعمر من سياسات تجهيل وإقصاء.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، أقر لومومبا سياسة الحياد الإيجابي والبعد عن التكتلات الدولية المتنافسة، ما بين معسكر شرقي شيوعي وغربي رأسمالي. ولكن برغم ذلك، فقد كان مؤيداً مبدأ الوحدة الأفريقية وحركات التحرر الوطني.
أدركت بلجيكا والدول الأوربية أنّها ستخسر مصالحها ومشاريعها الاحتكارية في الكونغو، بما تمثله من بلد غني بثرواته الهائلة، فقررت أجهزتها المخابراتية العمل على إطاحة حكم لومومبا، فاستغلت الفوضى التي تلت الاستقلال، وحرّضت بعض ضباط الجيش فسادَ التمردُ القوات المسلحة، وعمّت الفوضى مؤسسات أخرى، كما جرى تحريض الزعيم الكونغولي الموالي للغرب مويس تشومبي فأعلن انفصال إقليم “كاتنغا” الغني بثرواته، واستقلاله عن الحكومة المركزية.
وهكذا، وبعد ستة أشهر من توليه الحكم، وجد لومومبا نفسه غارقاً فى المشاكل، فيما بلاده تواجه خطر التقسيم، فلجأ الى الأمم المتحدة، طالباً إرسال قوات دولية لمساندة حكومة الكونغو الشرعية. وبرغم وصول قوات الأمم المتحدة فإنها رفضت التدخّل لصالح لومومبا. وباتت الكونغو مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء حصل على دعمه من جهات دولية محددة، ففي حين دعمت القوى الغربية والأمم المتحدة خصومه، نال لومومبا دعمه من الاتحاد السوفييتي والبلدان الأفريقية الثورية.
واندلع الخلاف بين لومومبا كرئيس للوزراء وبين رئيس البلاد كازافوبو. فعزل كل واحد منهما الآخر. وقد إعتمد لومومبا في تصرفه على نص دستورى يسمح لرئيس الوزراء بعزل رئيس الجمهورية إذا عجز عن القيام بعمله. وهكذا تفاقمت الأزمة الدستورية وغدت وقود الحرب الأهلية فى الكونغو، التي باتت تدعى محرقة أفريقيا.
خلال رحلة داخلية، اعتقل ﭘـاتريس لومومبا فى 2 كانون الأول/ديسمبر عام 1960 في مؤامرة اشترك فيها رئيس البلاد وقائد الجيش والمخابرات البلجيكية. ثم أعدم رمياً بالرصاص في كانون الثاني/ يناير عام 1961 مع عدد من معاونيه، ونكل بإجسادهم بطريقة همجية. وهكذا اغتيل الثائر الأفريقى فى وضح النهار على مرأى ومسمع من العالم كله بعد حياة سياسية قصيرة فى مدتها عميقة فى تأثيرها من أجل مبادئه وأفكاره.
برغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، فإن ﭘـاتريس لوموبا ما زال أحد رموز النهضة الأفريقية ووحدتها، والسعي لتحررها من سطوة المستعمر الأوروبي الذي ما زال يسيطر عليها بشركاته وبما يشعله فيها من حروب ونزاعات تمكّنه من السيطرة على مقدّرات هذه القارة وإنسانها وثرواتها.