“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف
الثائر الجامايكي، ماركوس غارﭬـي
كان حلمه أن يعود السود المنتشرون في شتى أنحاء المعمورة الى أفريقيا لاقامة امبراطورية أفريقية مستقلة وقوية. آمن بأن على السود القيام بجهد موحّد لتشكيل مؤسسات تجمع الثروة والسلطة في ايديها.إنّه الزعيم الجامايكي ماركوس غارﭬـي.
ولد غارﭬـي في المستعمرة البريطانية جامايكا في آب عام 1887 نشأ في بيئة تقترن فيها كلمة إنسان أبيض بالسلطة والثروة، فيما السود في قاع المجتمع يعملون في المهن والوظائف التي يأنفها البيض. كان والد غارﭬـي برغم بؤسه وفقره مولعاً بالقراءة، فانتقل هذا الولع إلى ولده ماركوس، ثم جاء عمله خلال مراهقته في أحد المطابع ليشبع نهمه إلى القراءة ، كما تولّى رئيسه في العمل توجيهه نحو الاهتمام بمطالعة الأدب.
برغم إلغاء الرق في الولايات المتحدة الأمريكية، ودول البحر الكاريبي ومنها جامايكا، فقد ظل السود يعانون الإقصاء وسياسة الفصل العنصري. وهذا ما دفع بالعديد من قيادات السود إلى تأسيس حركات مطالبة بالمساواة بين البيض والسود في الحقوق والواجبات، وقد اختار غارﭬـي مجال نقابات العمال ليبدأ نشاطه في الدعوة لإنصاف المواطنين السود. ونتيجة لهذا النشاط، وضعت سلطات الاستعمار البريطاني اسم غارﭬـي على القائمة السوداء، وتعرّض للمضايقة المستمرّة، فغادر موطنه عام 1913 متوجها إلى لندن، ، فقضى فيها سنتين، درس خلالها في جامعتها، وعمل مع المناضل السوداني المقيم في لندن ديوس محمد علي مؤسس صحيفة “أفريكان تايمز” ومجلة “اورينت ريــﭭــيو”.
عام 1915 وصل غارﭬـي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما تشكّلت في ذهنه تفاصيل برنامج اجتماعي يهدف إلى إعطاء السود حقوقهم عبر بناء قوتهم الاقتصادية، وذلك بإنشاء شبكة من مؤسسات الأعمال التجارية الصغيرة التي يملكها السود: متاجر بقالة، محلات لتنظيف الملابس، وغير ذلك من الأعمال القادرة على الازدهار بصورة مستقلة عن اقتصاد البيض. وبرغم أن هذه الفكرة لم تلاق التأييد أو النجاح الكافي، فإن مثابرته على تطبيق أفكاره أكسبته شهرة متزايدة. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبح اسمه معروفاً بين الأميركيين السود.
أدرك غارﭬـي أهمية الوسائل الإعلامية لدعم مشروعة والترويج لأفكاره، وكان بارعاً في تنظيم تظاهرات إعلامية ذات طابع دراماتيكي. كما أسس صحيفة “عالم الزنوج”، وكانت توزع بصورة واسعة في أنحاء الولايات المتحدة وفي بعض دول أميركا اللاتينية. أقام مؤتمرات سنوية حيوية في مدينة نيويورك، كما ابتكر راية ثلاثية الألوان ترمز للسود في العالم وحملت الألوان الأحمر والأسود والأخضر. وهي راية ما زالت تلقى إعجاب المواطنين السود إلى اليوم. كما أسس ماركوس غارﭬـي جمعية النجم الأسود المتحدة التي عملت على محاولة إقامة مشروع قائم على تأسيس أسطول تجاري يسهم فيه المواطنون السود عبر شراء أسهمه التجارية. ولكن غارﭬـي تعرّض لعملية احتيال، ففشل المشروع فشلاً ذريعا.
عاد ماركوس غارﭬـي الى جامايكا عام 1919 وهو يحمل مخططات طموحة للنهوض بالجامايكيين السود وتوحيد السود في الشتات. وفعلا أسس “الرابطة العالمية لتقدّم الزنوج” كما أسّس عصبة الجماعة الأفريقية. وجعل شعار منظماته “أفريقيا للأفريقيين في الوطن وخارجه”. الا أن اهم انجاز لغارﭬـي تمثّل في المؤتمر العالمي الأول عام 1929 الذي توافق مع ذكرى تحرير العبيد في الولايات المتحدة. وقد قال غارفي في هذا المؤتمر:”دعونا نعمل من أجل الغاية الوحيدة لكي نصل الى تكوين أمة حرة وقوية ودعوة أفريقيا لتصبح كوكبا ساطعا بين نجوم الأمم”.
وقد أطلق المؤتمر وثيقة اعلان حقوق الزنوج في العالم وتضمّن أربعة وخمسين مطلباً، وكان من أكثر برامج غارفي وضوحا وشمولا. ولم تقف أعمال غارفي عند هذا الحد وانما عمل على انشاء العديد من المؤسسات التي تخدم حركته ومنها “الفرقة الدولية الأفريقية”،”جمعية الصليب الأسود”، إضافة الى العديد من الصحف والمجلات التي اصبحت لسان حال حركته.
كانت الإشكالية الاساس التي توقف عندها غارﭬـي هي تنظيم العلاقة بين الأجناس والتمييز العنصري ضد السود في العالم الجديد. وتعامل مع هذه القضية بتطرّف فرأى أن الفصل هو الحل. وكان يؤمن بفكرة السمو العنصري لمصلحة السود وبأن أفريقيا هي قارة للسود وأمريكا وأوروبا قارتان للبيض.
ومثّلت العودة الى أفريقيا الهدف الاساسي لماركوس غارﭬـي، فكان ينادي بإقامة امبراطورية للسود نصّب نفسه امبراطورا عليها. وبنى لنفسه بيتا أسود على غرار البيت الأبيض.
في أيار عام 1920 ، ارسل غارﭬـي مبعوثا الى حكومة ليبيريا في أفريقيا، لتوضيح أهداف الرابطة العالمية لتقدّم الزنوج” وهي : نقل المقر الرئيسي للرابطة الى ليبيريا، وتقديم العون المالي لها لإنشاء المدارس والمستشفيات، وتصفية ديونها وتوطين الاميركيين السود فيها ليساهموا في تنمية الزراعة والموارد الطبيعية لديها. تحمّست الحكومة الليبيرية لعرضه بداية قبل أن تنقلب فجأة وتطرد القيّمين عليه. نتيجة لذلك قرر غارﭬـي نقل مشروعه إلى اثيوﭘـيا، لكن بعثته لم تقابل بالحماسة المرجوة.
عام 1925، سجن غارﭬـي في الولايات المتحدة بتهمة استخدام البريد للاحتيال، أنكر غارفي التهمة، حتى إن بعض خصومه ومنتقديه تضامنوا معه، قبل أن يصدر بحقه عفو رئاسي عام 1927 فغارد الولايات المتحدة، وأقام في لندن من جديد.وهناك أطلق مجلة “الرجل الأسود”، وانتقد خلالها عدداً من الشخصيات الأميركية السوداء واتهمهم بالفشل في تأمين قيادة عرقية فعالة. فشل غارﭬـي في تحقيق نجاحات إضافية، قبل أن يتوفّى في لندن عام 1940.
في العام 1962 نالت جامايكا استقلالها، فنقلت رفات غارﭬـي من لندن لتدفن فيها، ومنذ ذلك التاريخ، اعتبر أحد رموز استقلال جامايكا، ومن رموز تحرير السود فيها. وبرغم أن أفكاره كانت متطرفة وربما عنصرية فإنّها أسست لحركات تحرير السود في العصر الحديث.