لماذا لا تحتكم الطبقة السياسية الى الناخبين مبكراً بعد الحرب؟ ولماذا لا نؤسس “الجمهورية الجديدة”
بقلم : عباس صالح *
منذ سنة و9 أشهر انتهت ولاية ميشال عون الرئاسية .
ومنذ حينه، دخل لبنان في فراغ على مستوى رئاسة الجمهورية، لا يعلم أحد كيف، ومتى سينتهي، ولا بأي طريقة، ولا بأي ظروف، ولا وفق أي إتفاق، او تسوية او صفقة او ما شابه ذلك.
وإذا كان لبنان قد اعتاد على مثل هذا الفراغ الطويل في مؤسساته الدستورية وسواها، فإن اللافت، ان أحداً من المعنيين لايبدو انه كلف نفسه او من حوله من مستشارين واصدقاء ومعارف، بالتأمل في جذور الازمة التاريخية التي تتجدد وتظهر عند كل استحقاق وتنذر بأسوأ الشرور والفتن على مستوى الوطن وابنائه وشرائحه وطوائفه واحزابه وتكتلاته السياسية.
وفيما يبدو لأي متابع عن كثب، ان مثل هذا الحدث اصبح سياقاً طبيعياً ، في ظل إصرار غالبية عظمى من اللبنانيين عموماً على التمسك “بعناد” بنظريات أقل ما يقال فيها انها “خبيثة” و“سخيفة“، مبنية على مخاوف واوهام مصطنعة، يتم إحياؤها بفعل ماكينات سياسية ضخمة تملك آلات دعائية جبارة، كتلك الوسائل الاعلامية التي تعتاش على المال السياسي، فتعمل بدورها على إيقاظ الفتن والنعرات على انواعها، كلما طلب منها ذلك، وتبث سموم التخويف من الآخر، وتنمية الاحقاد بين ابناء الوطن الواحد، وتزرع الشرور والكراهية، بهدف إدامة الواقع والإبقاء على ال”ستاتيكو” للحفاظ على امبراطورياتهم السياسية والمالية والشعبية كما هي، وتوسيعها ان امكن.
ورغم ان اللبنانيين أذكياء بطبيعتهم، ويدركون بذكائهم الفطري، ان ما يجري من شحن لغرائزهم الطائفية، ولعب على اوتارالصلاحيات والامتيازات وما شابه ذلك، ليس الا وسائل دعائية تستثمر في “أمراضهم” من خلال تغذية المخاوف وتصوير اللبنانيين الآخرين على أنهم مجموعة “ذئاب برية” تتربص بهم الدوائر، وتنتظر الفرصة للانقضاض عليهم، ورغم علم هؤلاء اللبنانيين الراسخ بأن كل ذلك التخويف لا يعدو كونه ادوات انتخابية تستثير الشعبويات، وتخاطب الغرائز، وانها بعيدة كل البعد، عن العقل والواقع وحتى المنطق السليم، الا انها تمعن بعناد بل ب”خبث” على السير في هذه “النظريات السوداء” والترويج لها، وتوسعتها قدر الامكان. وهو ما يدعو الى كثير من الاستغراب والاستهجان.
هذا الامعان في الجريمة المتمادية بحق الوطن وابنائه من قبل النخبة السياسية، والتي تشارك فيها كثير من التكتلات الشعبية والحزبية، جعل كل هذه الشرائح والطبقات عمياء عن كثير من الحقائق وأبسطها، كما جعلها تحجم عن القراءة الموضوعية في الاسباب الحقيقية لأي حدث وطني، حتى ولو كان دستورياً، من قبيل الاسباب الحقيقية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية حتى الان، علماً ان القاصي والداني يعلم علم اليقين بأن السبب الوحيد ببساطة هو عدم تجانس اعضاءالمجلس النيابي الحالي، الذين أتى بهم قانون انتخابات هجين أرعن ومناقض لأبسط ديمقراطيات الكون، وجمعهم ك “أعداء” – أضداد، تحت قبة برلمان، ليغني كل منهم موَّاله الخاص به، وليتراشقوا بأبشع الشتائم وأفظع التهم على قاعدة :”لا تعايرني ولا اعايرك” او “كلنا في الهم شرق“، ولينفذ كل منهم مراميه الخاصة، بعيداً حتى عن مصالح ناخبيه الذين اوصلوه الى الكرسي النيابي.
كلام المطران عودة قد يكون منطلقاً لمقاربة سياسية جديدة
يعرف جميع اللبنانيين ان هذا التمزق في المجلس النيابي الحالي، والذي تحولت فيه كل الكتل النيابية الوازنة الى مجموعة اقليات متنافرة هو السبب الرئيس الذي حال ويحول دون انتخاب رئيس للجمهورية، وهو الذي يجمد التشكيلاتالحكومية، وكل الاجراءات الدستورية لأشهر وسنين احيانا . ومع ذلك ترى الناخبين يصرون على هذا النهج التدميري للبلاد، تحت شعارات الخوف من الآخر ويحجمون عن اي خطوة “ثوروية” او مجرد خطوة “تغييرية“، من شأنها ان تقلب الموازين رأساً على عقب، وتعيد الاعتبار للعقل وللانسان، كما تعيد وضع الامور على مساراتها الصحيحة .
وهنا يحضرني قول الشاعر :”نلوم زماننا والعيب فينا … وما لزماننا عيبٌ سوانا“.
اذ لا يمكن ابداً توجيه اللوم للطبقات السياسية التي ترى في تعنت اللبنانيين وتمسكهم ب“أمراضهم” و“عُقَدهِم” خيراستثمار لها لتبقي على امتيازاتها الخاصة.
وفي هذا الاطار لفتني اليوم تصريح جدير بالاهتمام والاحترام، يمكن ان يؤسَّس عليه، لسيادة متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، الذي قال في عظته اليوم الأحد: “النواب كانوا مدعوين إلى انتخاب رئيس للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس، لكنهم حتى الآن لم يلبوا نداء الواجب. فإذا كانوا عاجزين عن القيام بدورهم،أو أنهم وصلوا إلى طريق مسدود لا منفذ له، ألا تحتم عليهم المسؤولية الوطنية والأخلاقية مصارحة من أوصلوهموأوكلوا إليهم مسؤولية تمثيلهم، أن هذا المجلس النيابي، بتركيبته الحالية، غير قادر على انتخاب رئيس، وبالتالي عليهإفساح المجال لغيره، بالطرق الديمقراطية التي يمليها الدستور؟“
كذلك شدد عودة في عظته على ان “المواطنين أيضا عليهم مسؤولية ومدعوون إلى محاسبة ممثليهم والإعتراض على كل هفوة أو تقصير يلاحظونه في أدائهم”.
من كلام المطران عودة يمكن لنا ان ننطلق ونفرض على المسؤولين انتخابات نيابية مبكرة، يتم تحديدها بعد وقف الحرب في جنوب لبنان طبعاً، لتشارك كل الفئات الشعبية بمهرجان وطني يأتي بمجلس نيابي جديد، وفق قانون انتخابي معقول، يوصل تكتلات تقدم المصالح الوطنية على اعتباراتها ومصالحها الخاصة، على الاقل، حتى ولو لم تكن متجانسة ومتآلفة، تنتخب رئيساً للجمهورية فوراً، وتشرف على تشكيل حكومة سريعاً، وتشرع في ورشة النهوض بالوطن من بين الركام وانتشاله من الحضيض الذي وصل اليه على كل المستويات.
لِمَ لا؟
*صحافي . رئيس تحرير “اخبار الدنيا“.