في انتظار غودو لصموئيل بيكيت: ثرثرة لا نهاية لها في طريق مقفرة
الدنيا نيوز – دانيا يوسف
في رواية “القمر لا يعرف” للروائي السويدي “نيكلس رودستروم” تقول الجدّة لحفيدها: إن حياة هؤلاء الذين ليس لديهم وقت لانتظار المصعد في خطر. وتعكس هذه العبارة حكمة الجدّات وخبراتهنّ الحياتية، فالانتظار باعث على القلق والتوتّر في حياتنا، وكم من المفاجآت والمتغيرات تحدث خلال زمن انتظارنا القصير أو المديد.
وتلك هي الفكرة الجوهرية التي انطلقت منها فلسفة الانتظار بعد أن دشّنها صموئيل بيكيت بمسرحيته “في انتظار غودو”، التي اعتبرت أهم مسرحية في القرن العشرين.
صموئيل بيكيت هو كاتب مسرحي وروائي وناقد وشاعر ايرلندي ولد عام 1906 وتوفي عام 1989. منح جائزة نوبل في الأدب لعام 1969. كتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة والشعر لكنه برز أكثر في مجال المسرح وشهرته واسعة ككاتب مسرحي في مسرح العبث. له عدة مسرحيات أهمها في انتظار غودو. فما الذي أعطاها هذه الشهرة؟
تدور المسرحية في فصلين لا يتغير فيهما المنظر وهو طريق مقفر ليس فيه سوى شجرة جرداء، ويجلس إلى جوار الشجرة في هذه البقعة الجرداء شخصان مهرجان يثرثران ثرثرة لا نهاية لها ينتظران “غودو” الذي لا يأتي. الشخصيتان هما “استراجون” الذي يقع دائماً ضحية عدوان في الليل إذ يتعرّض للضرب من قبل معتدين مجهولين. أما الشخصية الثانية هو “فلاديمير” رجل مفكر وعقله مشغول بمناقشة الآراء والمقترحات، وهما مرتبطان ببعضهما ارتباطاً جدلياً. منذ زمن طويل يفكران دائما بالانفصال عن بعضهما لكنهما لا يستطيعان وهي دلالة على أن “البشرية هي نحن في هذا المكان وفي هذه اللحظة من الزمان” كما قال أحدهم، وهما بانتظار شخص ما في يده خلاصهما مما يعانيان من ألوان الشقاء وقد وعد جازماً إنه يأتي ولكنّه لم يحدّد الوقت، ولذا فان وصوله متوقع في أية لحظة. المشكلة التي تواجههما كيف يقضيان الوقت؟ كيف يعيشان إلى أن يحين وقت خلاصهما؟ شخصان آخران في المسرحية أحدهما شخصيته متسلطة وهو “بوزو” يسوق أمامه تابعه “لاكي” الذي يحمل متاعه بواسطة حبل مربوط في عنقه. “بوزو” هو الرجل القوي يعلن أن الأرض ملكه أما الشخص الآخر “لاكي” فهو لم ينطق بكلمة واحدة منذ أن ظهر على المسرح إلا عندما وضعت القبعة فوق رأسه وطلب إليه أن يفكر فهو إذن رجل الفكر الذي يسعى أن يفسّر كل شيء بالعقل.
يبدأ الفصل الثاني بأغنية عن كلب سرق قطعة من الخبز فضربه الطباخ حتى مات. تدور معاني هذه الاغنية حول الحرمان والقوة والموت، نفس الأشياء القديمة نفس الحياة المملة وهي تتعاقب يوماً بعد يوم وتمضي المسرحية الى النهاية. الشخصية الخامسة “غلام” وهو رسول غودو يبلغ برسالة بأن غودو لن يأتي، لكنه سيأتي غداً وإنّه جاد بالمجيء في الموعد. وهذه الرسالة تتكرر بيد الغلام بين فتره وأخرى يلاقي نفس الأسئلة ونفس ردود الأفعال عن كل مرّة، فيقرر الانتحار لكنّه يعجز عن ذلك. وتنتهي المسرحية من دون عودة غودو.
لو حاولنا أن نبحث في فضاء المسرحية سنجد ثيمات العبث والتكرار ومنها ما تردد على لسان الشخصيات:
” أحيانا أشعر أنّ كلّ الأشياء سواء وعندئذ أحسّ بالاضطراب”.
“في وسط كل هذا لا شيء يحدث أبدا ”
“إذن كلّ ما يمكننا أن نفعله هو أن ننتظر هنا”
“إننا في الانتظار. لقد استبدّ بنا الملل”.
كان وقع المسرحية حينما عرضت للمرة الأولى على خشبة مسرح “بابليون” في باريس عام 1953 صدمة للجمهور. إذ كانت وجوه الحاضرين بعد المشهد الأخير، خالية من أي تعبير، وتنتابهم حالة من الذهول. وسرعان ما أسس هذا العمل لبيكيت نهجاً فنياً جديداً ابتكر له مصطلح “مسرح العبث”. ولم يكن العبثيون في واقع أمرهم مدرسة أو جماعة، إنما مجموعة من المفكرين والكتاب غلبت على مشاعرهم وأحاسيسهم صفات تشابهت وظهرت في كل كتاباتهم الأدبية، خاصة المسرحية منها. وقد جاء تمرد العبثيين على المدرسة التقليدية العريقة التي أرسى قواعدها أرسطو حينما وضع أسس النقد الأدبي للمسرحية الجيدة، وحدد عناصر نجاحها في ثلاثة أمور هي: الزمان والمكان والحدث.
تشتمل هذه المسرحية على تمرد وخروج على قواعد المسرحية التقليدية. فالمكان عبارة عن أرض جرداء، قارعة الطريق وشجرة فالمسرح العبثي لا يهتم بالديكور. والزمان كذلك محدود: يومان ينتظران فيه جودو ولم يأت. أما الحدث، فلا أحداث متتابعة أبداً وإنما انتظار فقط. كما تتميز المسرحية بغياب النهاية لأنها أصلاً لا تتضمن بداية.
ويمكن القول إن مسرحية بيكيت تبوأت منزلة رفيعة في عالم الأدب العالمي، وكان لها تأثير واسع في الآداب العالمية بكافة ومنها الأدب العربي لا سيما المسرحيات التي كتبها توفيق الحكيم أو ما يسمى مسرح اللامعقول.