الحَيْرة عند العرفاء غاية الطريق. ولذلك يقولون إنها غاية لا متناهية ولا علم لهم متى تنتهي. وخلافاً للفلاسفة والحكماء الذين قالوا ان الهدف من البرهان والاستدلال رفع الحَيْرة، يقول العرفاء ان هدف العرفان هو تحصيلها. فمن مشى مع الحَيْرة الهادية وَصَلَ مبتغاه. فإنما هي مقامٌ عقليٌ رفيع يتواصل فيه الحائر مع الروح القدس ليوصله الروح القدسي الى حضرة الحق. وحضور الحائر في الحضرة الحقانية هو حضور شاق ومُحيِّر، لأن صور التجلي فيه غير متناهية ولا تتوقف عند حد. بل هي على تدفق دائم من التجلِّيات الرحمانية والصور العلمية. لأجل هذا يحارُ العارفُ الواصلُ في أيٍ منها ينبغي له ان يتخيَّر حظَّه مما في المائدة الإلهية من ألطاف ومواهب. فالعارف الواصل في مقام التحيُّر تكون حيرته الاندهاش الخلاَّق. وتلك حَيْرة آمنة، ذلك بأنها محفوظة بالحضرة ومطابقة لقوانينها وشرائطها. وأعظم قوانين الحضرة انها لا تعلن عن نفسها حتى للحاضرين فيها. فهي سرّ محفوظ في الغيب الأعظم. فلا يدرك هذا السر أحدٌ. والخائضُ في غمرة الحضرة لا ينبغي له الخوض إلا عند سواحلها، وليس له ان يبلغ عمق الماء. فثمة بحرٌ خِضَمٌ من أدرك نقطة منه غاصَ في قاعه العجيب، ثم لم يعد يميز النقطة من النقطة، ثم يمضي بعيداً في الماء فلن يبلغ النهايات، ثم يميل ثانية نحو الشاطئ علّه يجد ما يريد في صحراء الجهل. فإن المعرفة التي ما فيها جهل –كما يقول العرفاء – هي المعرفة التي ما فيها معرفة.
* * *
.. لمَّا ان كانت الحَيْرةُ الصاعدةُ على منازل، فقد استشعر العرفاء بعض أخبارها، وابتنوا لكل خبرٍ منزلاً يناسب أهله:
المنزل الأول- حيرة الواقف على باب السر. وهي مبتدأ رحلة الحائر في سلّم صعوده. وحيرتُه في أثنائها كلهُّا انذهالٌ لفرط ما يستترُ وراء الباب من غرائب. وبفعل الوقوف المهول على باب السر يغفُلُ الحائرُ عن كل سؤال. فلا يعود لديه منفسح من وقت للاستفهام عن شيء. ولشدة غفلته يثوي كل ما يختزنه من أسئلة الى قاع النفس. لكأنما انصرف الحائرُ بجميعه عن كل مسألة وطلب، فتعطَّل الفكرُ وانعقد لسانُ الحال. الاستفساراتُ كلُّها انحشرت في برهة حتى أوشكت كل أوقاته على التبدد. والذين عاينوا أحواله من قرب يقولون: ان الحائر رأى الحق في كل صورة يتجلى بها الحق. وان حَيْرته أشبه بدورانٍ دائم مع صُوَر التجلي. وحين سعى الى التعرُّف عليها، صار مسعاه سبباً في حيرته، وما ذاك إلا لأن سعيه بالفكر وحده يفضي الى قطيعة بين سؤاله عن حضرة الغيب وإيمانه بها في الآن عينه. لذا قال العارف: “ان من طلب الواحد في عينه لم يحصل إلا على الحَيْرة. فإنه لا يقدر على الانفكاك من الجمع والكثرة في الطالب والمطلوب.. وكيف يقدر على أن يحكم على نفسه بأنه طالب وان يحكم على مطلوبه بأنه مطلوب؟! ولأن الحق تعالى ينسب الى نفسه صفات تعبر عن نوع من التشبيه، فإن أدلتها العقلية تبقى مستحيلة وعصيَّة على الإدراك. في هذا الموضع قال الشيخ الأكبر ان “العقل السليم يبقى حائراً في الأخبار التشبيهية، وليس بمقدوره الوصول الى مقصود الحق في هذه الأمور” .
المنزل الثاني: حيرة الواقف امام مرآة التجلي
في هذا المنزل تنفتح عين العارف على مسرح الأسرار. وهو ما يسمى عند العرفاء مقام الكشف والشهود. في هذا المقام لا توجد حَيَرةٌ كتلك الناشئة من تقييدات العقل. فقد انتقل الحائر من عقل مقيّد يرعى الموجودات الفانية، الى عقل ممتد يروم العناية بما لا يفنى. والعقل الممتد يستطيع الجمع بين الأضداد، وهو ما لا يستطيعُه العقل المحدود. فلئن كانت حَيْرة العقل المحدود ناشئة من تفرُّق الفكر والنظر، كانت حَيْرةُ العقل الممتد منشأً لتوحيد الوجود والتعرُّف على حقائقه المستترة. من أجل ذلك قيل: ان صاحب الكشف لا يُصاب بالحيرة كما يصاب أهل النظر العقلي. فإن لأهل الكشف، حيرتَهم المخصوصة الدافقة عليهم من التجلي الإلهي بجميع صوره المتضادة، حيث يقبلونها جميعاً، ويصبحون مظهرها جميعاً. فالوصول الى الحَيْرة في باب الحق إنما هي عين الوصول الى الله. فإنها تزداد مع كل تجلٌ. وبهذا تصبح الحَيْرةُ مقاماً علمياً، يعود العارف معها الى نفسه، ويسأل بلسان الحق ان يزداد علماً فوق علم.
المنزل الثالث: حَيْرَة الحائر في حَيْرته
هذا المنزل من الحَيْرة مخصوصٌ بالعارف الذي استقر في مقام التدفُّقات الرحمانية فَحَارَ في أي سبيل يسلك: البقاء في أفق نفسه بما تكتظ به من الصور الشهودية، أو مفارقة ما هو فيه ليستأنف صعوده. وحالما يبتدئ الصعود تأخذه حَيْرتَه الى مطارح أخرى من التجليات. كلما تراءى له تجلٍ تضاعف حَيْرة على حَيْرة، ولا مناص له من السير في أرجاء الحَيْرة اللاَّمتناهية حتى يُكشف عنه الغطاء.
المنزل الرابع: الحَيْرة في الله
في جواب العرفاء عن معنى قوله: (اللهم زدني فيك تحيّراً) أن الله لم يزل على ما هو عليه قبل الخلق ومعه وبعده. فإنه لم يجعل مخلوقاً من المخلوقات شيئاً من ذاته ليتعرّفه به، أو يُتوصل به إليه، وإنما اخترع الاشياء عن مسٍّ مشيئته لها بأنفسها، وأقامها بأظلَّتها. فإن الله احبَّ أن يُعرَف ليُذكر فيُحمد، ويُشكر فيُعبد، ولا يمكن ذلك من حيث ذاته؛ لأن ذاته في الأزل، والمخلوقات في عالم الإمكان، فلا يتجاوز شيء منها ما وراء مبدئه. كل الموجودات حيال ذاته تعالى كرة مستديرة على نفسها على التوالي، ونفسها هي الصفة، التي هي لها بمنزلة القطب والنقطة. فالموجودات لعلة امتناع المجاوزة الى ما وراء المبدأ هي بنفسها حجاب لنفسها؛ لأنه تجلّى لها بها، وبها امتنع منها:
قد ظلَّت النقطةُ في الدائرةْ فلم تزل في نفسها حائرةْ
محجوبةٌ الإدراكِ عنها بها منها لها جارحةٌ ناظرةْ
ومع كونها (المخلوقات) أبدية الدوران والحركة لا يَرِدُ عليها شيء في تكوين ولا تشريع، إلا ما كان منها هو كالنهر المستدير على نفسه، والوارد الاول هو بنفسه الوارد الأخير؛ فهي أبداً مستمرة الدوران، لا الى جهة على ذلك القطب، كلما ظهرت لها جهة كمال تهيَّأت لها أخرى، لا انقطاع لذلك أزلاً وأبداً. كما جاء في الحديث القدسي: (ليس لمحبتي غاية، ولا لمعرفتي نهاية، كلما رفعت لهم عِلماً، وضعت لهم حِلماً). (الجواهر السنية – ص 191).