بين الفوضى والقانون: لبنانيٌّ في الغربة… وأميركيٌّ في الوطن!

 

بقلم : غسان بيضون

قبل عشرين يومًا، وطئت قدماي أرض الوطن، لبنان، بعد غيابٍ طويلٍ في ديار الاغتراب. عدتُ إلى حيث الجذور، إلى حيث الأزقّة الضيّقة تزخرُ بالقصص، والزوايا العتيقة تعجُّ بعطر الزمن الجميل، ولكن أيضًا إلى حيث الفوضى بكلّ تجلّياتها، من السياسة إلى الطُرُقات، ومن القانون إلى الحياة اليوميّة، ومن الفوضى المعتادة إلى الدمار الجديد الذي خلّفته الحرب الوحشيّة الهمجيّة التي شنّها العدو على هذا اللبنان الصغير بحجمه، الكبير بصموده.

أنا لبنانيّ، نشأتُ هنا قبل أن تأخذني الحياةُ إلى الولايات المتحدة طلبًا لمستقبلٍ أكثر إشراقًا لي ولعائلتي. هناك، في ذاك البلد الذي أختلف معه في سياساته الخارجيّة، خصوصًا في انحيازه الأعمى للكيان الغاصب، وجدتُ نظامًا يحترمُ القانون وحقوق الأفراد، ووجدتُ أمانًا واستقرارًا يكادان يكونان من المسلَّمات. والأهمّ من ذلك، وجدتُ كهرباء لا تنقطع، ومياه ساخنة متوفّرة في أيّ وقت، وإنترنت سريع لا يتطلب تخطيطًا مسبقًا للاستفادة منه قبل أن ينهار! عشتُ لعقودٍ في ظلِّ دولةٍ حيث القانون فوق الجميع – أو هكذا يُفترض – وحيثُ المواطن، ما دام ملتزمًا بالنظام، ينعمُ بالحرّيّة. حرّيّة التنقّل، حرّيّة التعبير، حرّيّة العيش بلا خشية التسلّط، وهذه أمورٌ لم أعُدْ أراها إلّا في الأحلام حين أفكّر في لبنان.

لكن لا شيء يُعادلُ العودةَ إلى الوطن، حيثُ الشّمسُ اللبنانيّة تُرسلُ دفئها كأنّها تُكافئنا بصباحاتٍ وادعة، في حين أننا في ميشيغان نُحاصرُ بالصقيع ونُصارعُ الثلوج. أن تستيقظَ على صباحٍ لبنانيٍّ مُشمس، وتحتسي قهوتَك تحت سماءٍ صافية، هو رفاهيّةٌ لا تُقدَّر بثمن لمن ألفَ قسوةَ شتاءِ الاغتراب. لكن مع هذا الصباح الجميل، عليكَ أن تُعيد برمجة عقلك، وأن تتأقلم مع العيش وفق جدولٍ زمنيٍّ غريب: متى تأتي كهرباء الدولة؟ كم ساعة ستصمد بطاريّة “الإنفرتر”؟ هل اشتركتُ بباقة الإنترنت المناسبة أم أنني على وشك أن أُفاجأ بغياب الشبكة؟ هل الماء الساخنة متوفّرة أم عليَّ تشغيل السخّان وانتظار ساعة قبل أن أستحم؟ أسئلة لا تخطر على بال من يعيش في بلدٍ حيث هذه الأمور من المسلَّمات، لكنها هنا، في لبنان، جزءٌ من الحياة اليومية!

وإذا أضفت إلى هذه التحديات مشهد الجرافات وعمّال إزالة الأنقاض المنتشرين في القرى والبلدات، رأيتَ وجهًا آخر لهذا البلد، وجهًا يحمل آثار العدوان، لكنه في الوقت نفسه ينبض بالحياة. هنا شاحنةٌ ترفع الركام، هناك حفّارٌ يشقُّ طريقه وسط الدمار، وبين هذا وذاك عمّالٌ يكدحون بصمت، يحاولون إعادة الحياة إلى ما دمّرته الوحشيّة الصهيونيّة.

ورغم ذلك، لم يكن اندماجي سريعًا هذه المرّة. أنا المتمرّس في قيادة السيارة عبر الكثير من الولايات الأميركيّة، من ميشيغان إلى نيويورك، ومن فلوريدا إلى كاليفورنيا، مرورًا بنيوجرسي وكونيتيكت وبنسيلفانيا وأوهايو وجورجيا وغيرها، وجدتُ نفسي هنا أمام تحدٍّ جديد! في أميركا، الطرقات منظّمة، القوانين واضحة، إشارات المرور مقدّسة، والمخالفات لا تُناقَش. أمّا هنا، فقد وجب عليَّ أن أنسى كلَّ ما تعلّمتُه، وأدخل إلى ساحة معركة يوميّة حيث الإشارات الوحيدة التي يعتمد عليها السائق هي عيونه، حواسه، وقدرته على “المطاحشة”! أمّا شرطيّ السير – ذاك المنهك اللامبالي في أغلب الأحيان – فهو تمامًا كالسائقين، يراقب المشهد وكأنّه يشاهد سباقًا مفتوحًا بلا قوانين.

ورغم كلّ ذلك، وسط هذا الجنون، ثمّة شيءٌ يجعلني أبتسمُ في كلّ لحظة: هذا الشعبُ العجيب! شعبٌ قد يبدو، من الخارج، وكأنّه غارقٌ في مستنقعِ الأزمات، لكنّه في داخله يحملُ قلبًا دافئًا وروحًا لا تُقهر. رغم الصعوبات، لا يزالُ يضحك، يسخر، يحتفل، ويتمسّكُ بالحياة كأنّها غنيمةٌ يجبُ الاستمتاعُ بها حتى الرمق الأخير. كيف لا أحبُّ هذا الشعب؟ كيف لا أعشقُ تفاصيلَه التي تجمعُ بين العبثيّةِ والسحرِ في آنٍ واحد؟

نعم، أميركا منحتني الاستقرارَ والقانونَ والأمان، لكنّها لم تستطع أن تمنحني هذا الشعور العميق بالانتماء، الذي لا أجدهُ إلّا هنا، بين زواريب مدينتي صور و النبطية وضجيجها،، و بنت جبيل و أنصار وتحتَ الشّمس اللبنانيّة التي تُغمرني بحنانها، وبين أناسٍ قد يشتمونكَ في زحمةِ السير، لكنّهم في اللحظةِ التالية أوّلُ مَن يهرعُ لمساعدتك إن احتجتَ إليهم.

الزيارةُ أوشكت على نهايتها، وسأعودُ قريبًا إلى حياةِ التنظيمِ والنظامِ والقوانينِ الصارمة، حيثُ الكهرباء والمياه والإنترنت ليست امتيازات بل حقوقٌ لا جدال فيها. لكن شيئًا ما يخبرني أنّني لن أستطيعَ أن أنسى هذه الأسابيع بسهولة. ففي النهاية، مهما حاولتُ التأقلم هناك، سأظلُّ في داخلي ذاك اللبنانيَّ الذي، رغم كلِّ شيء، يُحبُّ هذا الوطن بجنون… بفوضاه، بحنانه، بشمسه، بركامه، بانقطاع كهربائه، وبشعبه الذي، مهما قست عليه الأيام، ينهضُ من جديد، أكثر عنادًا، أكثر حياة‼️