اوقفوا المنح والمصاريف الضخمة السرية والمعلنة ولا داعي للضرائب والحسومات
عباس صالح*
ما جرى حتى الآن في كل جلسات مجلس الوزراء المخصصة لدراسة وإقرار موازنة العام 2019 لا يبشر بأي خير على الإطلاق، بل على العكس تماماً، فما يجري يؤكد للأسف على ان هذه الطبقة السياسية برمتها ما زالت ماضية في اعتماد نهج التحاصص وتغطية السموات بالقبوات، ودفن الرأس في الرمال، ومحاولة الضحك على عقول اللبنانيين، والعالم من ورائهم، وإفهام الناس أنهم طبقات سياسية إصلاحية، تجهد في إنقاذ اقتصاد الوطن المتداعي، والذي وصل الى حدود خطرة غير مسبوقة، بفعل سياساتهم المدمرة وتقاسمهم كل شيء، وتناوبهم على امتصاص خيرات الدولة بوسائل شتى وصولا إلى استسهال فرض المزيد من الضرائب كأهون الحلول المتاحة بأيديهم، بعد ان عمموا الاجواء المعاكسة وأوهموا القطاعات الحيوية انهم بصدد الحسم من الرواتب والمخصصات والمزايا والعائدات.وبالتالي بات هم كل هذه القطاعات وحراك ابناء محصوراً بالدفاع عن رواتبهم وامتيازاتهم، ولم يعد مهتماً برفض الضرائب التي تكويه مع أبنائه وتمتص كل عائداته بسلاسة.
ما من عاقل إلا ويدرك جيداً أن بلداً على شفير الافلاس يمكن ان تكون موازنات مؤسساته الرئاسية والوزارية بمبالغ تفوق حتى الخيال الانساني (تتجاوز المليار دولار سنوياً في بعض الرئاسات!) لصرفها على أمور ثانوية وكمالية ان لم نقل تافهة، وتوزع كيفياً وبمثابة تنفيعات وتجديد مفروشات كل سنة! وأسفار مع مئات المرافقين أحيانا تفوق تصورات العقل لفرط مظاهر بذخها! واستخدام طائرات خاصة، وما الى ذلك من رواتب وهمية لجيوش مؤلفة لكنها غير مرئية ولا محسوسة واقعاً.
وما من عاقل يمكن ان تنطلي عليه نظرية الدولة التي يعاني اقتصادها من أزمات حادة تهدد بالافلاس فعلياً، فيما ترصد موازنته السنوية مبالغ بالاف المليارات لتوزيعها عطاءات على الجمعيات والمؤسسات الخاصة كالمدارس والمستشفيات والاحزاب ووسائل الاعلام وغيرها .. عدا عن المنح المخصصة لابناء الموظفين، وهي منح تعليمية واستشفائية خارج لبنان وداخله، ويبلغ مجموعها بآلاف المليارات ايضاً، وكل ذلك فضلاً عن الامتيازات الممنوحة للآلاف من الموظفين في المؤسسات العامة والخاصة كشراء السيارات الفارهة بالآلاف من شركاتها على نفقة الدولة، ومع تحميل ثمن وقودها كذلك وتكاليفها لخزينة الدولة علماً انها في غالب الاحيان تستخدم للخدمات الخاصة! كما لا ننسى سفرات الموظفين والضباط وما تعنيه من صرف مبالغ طائلة عليها من خزينة الدولة، ما يجعل البعض يصف السفر من ضمن مهمة وظيفية بأنه مصدر ثروة لأنه يتقاضى يومياً مبالغ خيالية فضلا عن فواتيره المقبوضة من مأكل ومشرب وتنقلات في الخارج، وكل ذلك في ظل بقاء راتبه سارياً على عادته في لبنان!
إذا اكتفينا بهذه العينة فقط من المزاريب الضخمة التي تهدر المال العام ولم نتطرق الى أمور أخرى كايجارات مباني الدولة، وحرمان الخزينة من اموال طائلة متعلقة بالجمارك نتيجة الفساد، والتلزيمات الضخمة، ومنح الاراضي للمتنفذين والمحاسيب، وحشو الادارات وغيرها من ابواب استنزاف مالية الدولة، سنجد حكماً أن من يتحدث عن حتمية فرض ضرائب جديدة على فئات الشعب كافة، والمُعدَمين منه والمسحوقين، وهم الاغلبية، في إزاء الإبقاء على كل تلك الامتيازات كما هي، أو حتى التخفيف منها بنسبة 10 او 20 بالمئة كما يُحكى، هو إما انه يستغبي البشر بأكملهم، أو ان عقله مصاب فعلاً وهو فعلا يكون فاقداً للأهلية الانسانية قبل القيادية، لأنه في أحسن الأحوال، وحتى ولو سارت الامور بما يرسمها، ولو على السكة الخطأ فسيكون كمن يعبئ الماء في السلة. وطالما ان الهدر القائم بهذه المقادير العالية فإنه عبثاً يحاول ولو فرض ضرائب باهظة حتى على انفاس البشر فإنها لن تكفي لتسد هذه المزاريب العملاقة .
باختصار، عودوا الى العقل أيها الساسة، واعلموا ان إقفال جزء صغير من مزاريبكم الفضفاضة سيسكر العجز في الموازنة، ولا داعي حينها لفرض اي ضريبة إضافية كما فعلتم بالضريبة على فوائد الودائع وهو خطأ جسيم لأن قطاع المصارف هو القطاع الوحيد الناجح الذي بقي في لبنان بعد ان دمرتم كل القطاعات الاخرى التجارية والزراعية والصناعية والعقارية والسياحية والطبية وغيرها الكثير. الضرائب العالية على الفوائد، تعني فائدة أقل في بلد لا يتمتع بالضمانات الكافية للمستثمرين من الداخل والخارج وهو ما يحفزهم على الهروب الى فضاءات أخرى أكثر جذرية في الأمان.
عودوا الى عقولكم، واحترموا عقولنا.. اوقفوا المصاريف الجانبية السرية والمعلنة، وأوقفوا المنح والعطاءات، وتعاطوا مع الازمة بمنتهى العقلانية كما ينبغي، او تنحوا لغيركم…في لبنان الكثير ممن يعرفون كيف يقودون البلد بجدارة ويتجاوزوا هذه الازمات من خلال المسلمات المنطقية والعقلانية، وبعيداً عن الضرائب والحسومات.
*صحافي